السبت، 1 أكتوبر 2011

موت الإلحاد !

بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..



أوى أبو إلحاد إلى فراشه وحاول أن يغمض عينيه فلم يقدر. لم يطاوعه النوم فتناوم, لكن النوم هجره, حاول أن يتسلى بعد الضباع لعله يمل فينام, حاول أن يصعد بخياله في سلم التطور, تخيل ذوات الخلية الواحدة كيف استطاعت بفضل الجهد التعاوني أن تلتحق بأخواتها فتكون أولى الكائنات الحية, تخيل بعض الزواحف العمياء تتجه لتغطس في المحيط, تخيل كيف نبتت لها خياشيم وزعانف, لكنه فشل في تخيل الحلقات المفقودة.
بدأت الأفكار تنهال عليه, اجتهد أن يسترخي دون جدوى, كلما سكن ذهنه وأوشك أن يصير صفحة بيضاء, تسللت إليه هواجس سوداء, إنه يخاف من الوحدة, يخاف من السكون, يخاف من الصمت, الصمت يفتح باب التفكر, والتفكر يستدعي آلاف الخواطر والصور , تهجم عليه كالجيش العرمرم, إذا صدها من الميمنة هجمت عليه من الميسرة, تطرق باب عقله, فتغمره ببحر من الأسئلة.

بدأ يتساءل عن الحياة وعن الموت, لقد وطئت قدماه اليوم أبغض البقاع إلى قلبه, لقد قضى ساعة في المقبرة كأنها سنة, غطى وجهه بالوسادة كأنه يهرب مما علق بذهنه, وتقلب كأنه ينفض عن عقله هذه الوساوس الخانقة, أحس بغبار المقابر يملأ أنفه, بدأ هذا الحوار الداخلي يدور بداخله: "كيف أتخلص من هذه الهواجس؟ مالي والتفكر في الموت ولم أبلغ الأربعين بعد؟ سأعود للعناية بنفسي, سأترك التدخين, سأنظم الشرب, فلأقتصر على كأس أو كأسين في الأسبوع, مات مروان, لقد كان وسيما ممتلئا شبابا؟ سقط فجأة كجذع من خشب أثناء المباراة, توقف قلب مروان قلب هجوم الفريق, مات في الوقت الإضافي, مات وهو يركض في حالة شرود, قال الأطباء: أزمة قلبية, سحقا لهم لماذا لم يكتشفوا ذلك قبل موته؟ قطعة لحم في حجم التفاحة تقذف بك بعيدا إلى العالم الآخر, أعني عالم الموت والفناء, وأي شيء الموت؟ لا شيء, الموت عدم, لكن مهلا لماذا قد أخاف من شيء لا وجود له؟ كيف أخاف من لا شيء؟ تنهد كأنه يدفع من صدره هذا الانقباض الذي يجثم عليه, ثم تساءل: ما زلت أخاف من هذا الشيء الغامض البغيض منذ عقلت, إنهم يقولون إن الموت أخو النوم, لكني أحب النوم فلماذا أكره الموت؟ إذا كنت مجرد مادة صماء, فلماذا أخاف من الموت؟ ربما هي الغريزة الحيوانية الداروينية؟ انظر إلى حيوانات الأدغال, إنك تكاد تقرأ معاني الرعب على وجه الحمار الوحشي المبرقش وهو يعدو بأقصى سرعة لينجو بجلده ولحمه, وعصبه وعظمه, وبياضه وسواده من السبع الضاري الذي يلاحقه, إنه يكاد يشعر بأنفاسه الملتهبة تلفح قفاه, أليس هذا خوفا من الموت؟ بلى ولكن ما هذا الخوف أقصد, هذا خوف طبيعي له سبب وجيه, لكن الحمار الأنيق في بذلته المخططة, مثل نجوم السبعينات, لا يخاف حين يكون في سربه في لحظات الأمن والسكينة, ينعم برفقة الأتان وبرؤية الجيل الصاعد من الجحوش ,يقضم العشب الأخضر ويكرع من ماء النهر, هل نتصور حمارا ممددا فوق حشائش السافانا الإفريقية تتصارعه هذه الأفكار الوجودية التي تعصف في رأسي الليلة؟ هل سمعتم بحمار يعاني من الأرق ويدمن المهدئات؟ أنا لا أقصد الخوف الدارويني الذي يصرخ في داخل كل حيوان: "أريد أن أبقى, أريد أن أعيش", إنما أعني هذا الخوف الذي يتملكني الآن, إنه شيء مختلف, إنه شيء غريب, فأنا لا أرى له من سبب, ترى هل يمكن تفسير هذا (الخوف الفلسفي) من الموت بالرجوع إلى مبادئ نظرية التطور؟ لا أدري, لكن التطور يعني الانتقال من طور أدنى إلى طور أعلى وأفضل, وأي فضل في إحساس بالخوف يشل تفكيرك وينغص عيشك؟ أنا كائن مادي قلبا وقالبا, أيقنت أن الروح خرافة, الوعي تفاعلات كيميائية, تفاعلات معقدة لكنها تبقى مجرد تفاعلات, هل يخاف البحر حين تلقي فيه حجرا؟ إنه لا يهتم ولا يتقي, بل ينتظر في هدوء حتى يلامس الحجر صفحته فترتسم عليه أمواج دائرية رقيقة كأنه يبتسم, إنه تعبير البحر عن عدم اكتراثه, هل يترقب البحر سقوط الحجر؟ هل يخاف؟ إنه لا يبالي ولا يأبه بشيء, إنها عظمة المادة, وأنا مادة, ففيم الجزع إذن؟ أمر محير, انظر إلى التلفاز تطفئه وتشغله بزر واحد, الإنسان آلة داروينية متطورة, لماذا لا نعتبر موته مثل إطفاء أي آلة أخرى نعرفها؟ تضغط الزر قليلا فينتهي كل شيء؟ لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا, حتى من يقف والسكين بيده ليحز شرايينه, أو يحمل كأس السم ليحتسيه, أو يقف على حافة هاوية ليتردى منها, حتى هذا الإنسان المقبل على الإنتحار يشعر أن الأمر لا يشبه أبدا إطفاء جهاز أو تعطيل آلة, لكن لماذا؟ هل المادة تجزع؟ هل المادة تخاف؟ هل المادة تتردد في فعل ما ينبغي لها فعله؟ أبدا فالمادة في غاية الحزم والمثابرة والبرود, تحية تقدير وإكبار للمادة, المادة لا تعرف لا العواطف ولا الكلام الشاعري الرقيق, فمن أين جاءنا هذا الخوف القاتل؟"

"سأعتني بنفسي, لكن ذلك لم ينفع مروان, لقد مات في الثلاثين, إذا كانت الرياضة لم تنفعه فهل تنفعني؟ أنا لا أريد أن أموت, على الأقل أريد أن أعيش كما يعيش الناس سبعين, ثمانين, تسعين, أو مائة سنة, ولم لا؟ تبا, حتى ألف سنة لا تشبع نهمي للحياة! لماذا يسكنني هذا الإحساس برغبتي في البقاء؟ هل هذا هو منشأ فكرة الخلود التي يدندن حولها أهل الأديان؟ أمر مثير للاهتمام أن يكون لهذه الفكرة الدينية مكان في تفكيري وأنا ملحد عريق في الإلحاد, إني أتمنى الخلود وإن كنت لا أفصح عن هذه المُنية, لكنها هنا في أعماق نفسي, إنها في قعر سحيق, لكنها تصرخ بي: "لا تكابر, أنت لن تشبع أبدا من الحياة" واأسفاه, إني أؤمن وأقطع وأجزم بأني لا بد أن أذوق كأس المنية, لماذا أعجز عن تقبل الأمر بكل هدوء كما يفترض بالمادة أن تفعل ما ينبغي لها فعله؟ عجبا, شيء ما داخلي لا يقنع بمطلب دون الخلود, ياه, لو كان ذلك ممكنا؟ إنها فكرة عريقة في القدم, لقد حنط المصريون فراعنتهم, ماتوا ولم يمت أملهم في حياة أخرى, مساكين, كانوا يؤمنون بحياة أخرى, فماذا كان من أمرهم؟ الحياة الأخرى الوحيدة التي نالوها هي حياة خلف الزجاج البارد في متاحف لندن وباريس, لكن الزملاء الملاحدة أنفسهم بدأوا يتساقطون كالذباب ضحايا لهذا النهم الأسطوري للخلود, إن بعضهم دفع كل ما يملك ليدفع التكاليف الباهضة لحجز تذكرة العودة إلى الحياة, (النيتروجين) هو الكلمة السحرية التي تعزف سيمفونية (أحلام الخلود) في آذان الزملاء المتنورين, كما كان التحنيط البدائي يعزفها في أذن توت عنخ آمون ورمسيس الثاني".

تخيل أبو الإلحاد نفسه مغمورا بالنيتروجين السائل, ينتظر الجيل الموعود الذي سيفك اللغز المحير لغز الحياة, لغز الموت, لغز الوجود, ليحقق حلمه المنشود, فيهبه تذكرة إياب إلى الحياة التي سيغادرها مكرها, أحس برائحة النيتروجين التي لم يشمها من قبل, لكنه تخيل أنها رائحة باردة, تخيل نفسه ملقى في تابوت زجاجي كأنه ثور أرجنتيني مجمد, وهل يعقل أن يعود بعدها إلى الحياة, إلا كما يتصور أن قطع الديك الرومي في ثلاجته ستتجمع ليصيح من جديد, يا له من حلم جميل! لكنه حلم بعيد المنال, فهو لا يملك الملايين لسد نفقات التحنيط عالي التقنية, ما أشد جشع زملائنا في العالم الجديد, عالم الأفلام والأحلام, يبيعون وعدا معلقا قد تخلفه القرون, ثم يقبضون ثمن الخدمة الموعودة نقدا, هلا أخروا السداد إلى وقت الوفاء؟ هلا اقتدوا في بيعهم للخلود بخصومنا المتدينين؟ إنهم لم يجعلوا العودة للحياة حكرا على الأغنياء دون الفقراء, ولا على البيض دون السود, لقد جعلوا الباب مفتوحا يلجه كل أحد, كل ما هنالك أنهم جعلوا الإنسان يقرر بنفسه كيف تكون جولته الثانية من رحلة الحياة, كأنهم قالوا: "بيتك هناك, فاجعله نعيما أو جحيما" يجب أن أقر لهم رغم اختلافي معهم, أنهم أكثر إنصافا من هؤلاء التجار مصاصي الدماء, إنهم أحفاد شايلوك, إنهم سماسرة يتجرون في الخلود ليراكموا الكنوز, أما أهل الأديان فإنهم ربطوا فكرة الخلود بأمر يستطيعه كل أحد, وليس بكم الأصفار عن يمين الحسابات البنكية, شعر بالفزع مما دار في ذهنه, لقد تزحزح إلحاده, وكاد يركن إلى الإيمان, انفجر ضاحكا, وهو يقول: "لقد فضح الموت الإلحاد" عدنا من حيث بدأنا, اتفق المؤمن والملحد على أن الحياة سر دفين, علق كلاهما الكشف عنه على المستقبل, لا إشكال أن يؤمن المتدين بالبعث والنشور وبالجنة والنار, لكن العجب كل العجب أن يسترزق الملحد المتنور من نفس ما ينكره على خصومه نهار مساء, إن الملاحدة أصبحوا يؤمنون بالبعث, لقد صاروا يبيعون الوهم, إن الملاحدة لم يعودوا ملاحدة, إن الإلحاد صار ملة ودينا وإيمانا, إن الإلحاد أثبت أن الإنسان كائن متدين, لقد أحسنت باعتناق المذهب اللاأدري, فهذا الإلحاد الملفق لا يكتفي بالسطو على شذرات من التراث الديني, بل يستثمرها للسمسرة في بورصته (الشايلوكية). لقد اكتملت أركان (الملة التنويرية) ولم يبق إلا تأسيس كنيسة إلحادية تقدم فيها القرابين والنذور للقسيس "دونكي" بالوسائل التقنية المتطورة.

شعر أبو الإلحاد بالإحباط, إنه لا يملك ثمن النيتروجين, ولا يملك أن يقتلع من نفسه فكرة الخلود, ولا يملك أن ينام, كل ما بقي له أن يغوص في أحلام اليقظة, تخيل نفسه من خلف ستار القرون وقد استنقذه أبناء المستقبل من مسبح النيتروجين, فتح عينيه فنظر إلى كائنات خضراء تلبس ثيابا بيضاء وتضع الكمامات, وبدل أن يتساءل هل صارت الأرض مستعمرة في قبضة شعب المريخ, تساءل: "كيف له أن يعرف أنه هو الشخص نفسه الذي كانه قبل أن يغطسوه في المحلول النفيس؟ كيف علم الجسد المحنط أنه جسد أبي الإلحاد؟ إنه الآن ممدد في قاعة معقمة في ضيافة المخلوقات التي ينسب لها البروفيسور (دونكي) برمجة حمضنا النووي, فكيف يكون الشخص نفسه الذي كان يوما ما في غرفة حقيرة, ممددا على سرير خشبي متهالك, تتصارعه الهواجس ويكده الأرق؟ ما هو هذا الشيء الذي يدعوه "أناهل هو هذه البلايين من الخلايا المتجمعة؟ وكيف عرفت الخلايا أنها تكون كيانا متجانسا حتى تدعو نفسها فجأة "أنا" بدل أن تقول "نحنمن هو هذا "الأنا" الذي يسافر عبر الزمان والمكان ولا يلتبس بغيره أبدا؟ ماهو مفتاح هويتك يا أبا الإلحاد؟ هل يمكن أن نفترض على سبيل التنزل أن هذا (الأنا المجهول) يبقى في صورة ما, وفي بعد آخر لا نعلمه بوسائلنا الفيزيائية والتقنية المحدودة؟ وإذا كان هذا "الأنا" الذي أعنيه حين أقول "أنا" هو منبع هذا الطوفان من الأسئلة التي تكاد تهشم رأسي, فلم لا يظهر حتى أراه وألمسه وأطمئن عليه؟
من "أنا" يا "أنا"؟ هل يعقل أن يكون هذا "الأنا" يسكن بعدا آخر من أبعاد المادة لا نعلمها بعد؟ ربما تعرف المخلوقات الخضراء عنوان هذا "الأنا" وموطنه, فتستقدمه يوما ما لتعيده مرة أخرى في أجساد المحظوظين الذين يحظون بحمام بارد طويل الأمد في حاويات النيتروجين؟ من يدري ربما كان الزملاء الشقر على حق؟ فقد علمني الإلحاد ألا أستهين بأي احتمال مهما دق ورق حتى أشبه المحال." وعلى إيقاع هذا الأمل الضئيل الذي تناهى في دقته حتى كأنه هباء, شعر أبو الإلحاد ببصيص من السكون, فأغمض الجفون, وبدأ النوم يغزو رأسه شيئا فشيئا.

الزوار