السبت، 1 أكتوبر 2011

تأملات داروينية !

بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..



عاد أبو الإلحاد من السوق يتصبب عرقا, دخل بيته وهو يحمل القفة, اشترى بيضا وباذنجانا وسمكا, و أعد لنفسه فنجان شاي, ثم جلس ينتظر عودة أم الإلحاد لعلها تهيئ له طبقا شهيا من الباذنجان المحشو بالسردين المفروم. إنه طبقه المفضل. لقد وجد هذه الوصفة يوما في قسم الإستراحة في أحد منتديات (الجرب والجذام). ومنذ ذلك اليوم وهو يكاد يشعر برائحة الخنوزة تهجم على أنفه كلما دخل على زملائه الافتراضيين, ربما تنبعث تلك الروائح من تحت ركام الشتائم والكلام البذيء, وربما تفوح من الوصفات الغريبة في قسم الإستراحة, فهو رغم إلحاده العميق لا يستسيغ كل ما يروج في المطبخ الإلحادي, كل ما في الأمر أن هذه الوصفة الفريدة وافقت هواه.

جلس يتخيل مقادير الزيت والثوم والليمون والبهارات اللازمة لطبقه المنشود, وتساءل كم من الوقت يلزم الصدفة الخلاقة لتهبه طبقه الشهي الذي تنجزه زوجه في أقل من ساعة؟ لا بد أن الصدفة تحتاج زمانا مديدا لهذه الغاية كما هي عادتها, حاول أن يحسب احتمال تكون مثل هذا الطبق اللذيذ بمحض الصدفة, يبدو أنه احتمال ضئيل جدا, لكن الطبيعة تعمل بصبر وأناة, من حسن حظه أنه لا يعتمد على الصدفة في مثل هذه الأمور المصيرية, فإن مصارينه لن تحتمل طويلا. بدأ يحتسي الشاي و يتأمل محتويات قفته, تفكر في غلاء الأسعار وفي ندرة الخضار, سمع أن ارتفاع سعر البنزين هو السبب في ذلك, تخيل كيف سيتحول هو نفسه إلى بنزين بعد ملايين السنين, تساءل هل سينتهي يوما ما محترقا في محرك جرار يحرث الأرض أو في خزان صحن طائر يجوب الفضاء, لكنهم يستعملون طاقة أخرى على الأرجح, لا يهم, فالمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم, لكنه لو لم يأكل شيئا فإنه يوشك أن يغمى عليه من الجوع.

نظر إلى سمكة سردين بجلدها الفضي البراق, نظر إلى عينيها الجميلتين فوجدهما جاحظتين كأنهما تنظران إلى شيء ما, تخيلها كيف كانت تسبح في رشاقة بالغة في أعماق المحيط حين اكتشفت فجأة أنها وقعت في الفخ , وأن الشبكة أطبقت عليها من كل جانب, خاطبها قائلا:
"للأسف فإنك خسرت معركة البقاء, إن أسلافك لم يفهموا آليات الانتخاب الطبيعي كما ينبغي, لقد جازفوا بالبقاء في المحيط, ربما ظنوا أن المستقبل مظلم على ظهر اليابسة, ماذا لو كانوا بادروا باستكشاف البر؟ من يدري لو كانوا فعلوا فربما كنت الآن مكاني تلبسين الثياب الأنيقة وتنعمين بالشاي الأخضر الصيني, ولكنت تنظرين إلي في القفة وتعجبين من زعانفي المدببة ورائحتي الغريبة", تخيل نفسه مقليا أو مشويا, يا له من مصير مؤلم, لكن لحسن حظه أنه ارتقى في سلم التطور درجات كافية جنبته هذا العذاب المؤلم, لكن أهل الإسلام يتوعدونه بنفس المصير لأنه كفر بدينهم و اعتنق (ديانة التطور), تفكر: "إنهم يسمون كل شيء دينا, فليكن كذلك, فماذا ينقمون على التطور؟ لو لم يكن فيه علي من فضل إلا أني لست سمكة سردين فما أعظمه من دين." تمنى لو أنه لقي داروين ليشكره شخصيا على كشفه لأسرار التطور المذهلة.

قرر أن يسلق بعض البيض ريثما تعود أم الإلحاد, لم يجد إلا بيضة واحدة, وضعها على النار وهو يتساءل:
"ما الذي سبق البيضة أم الدجاجة؟ و ما الذي سبق الآح أم الماح؟"
لو كانت الطبيعة تسير وفق تسلسل المعجم لكان الآح أسبق, لكن بحث التطور لم يصل بعد إلى هذه التفاصيل الدقيقة, لكن كيف استطاعت الطبيعة أن تعمل في هذا المجال الضيق؟ شيء عجيب, جلد وعظم, ريش ولحم, جناحان ومنقار, لا بد أن هذا كله استغرق وقتا طويلا, الطبيعة مدهشة, الطبيعة خلاقة, تصنع هذا كله بشيء لا أستطيع أن أصنع منه إلا شيئين لا ثالث لهما بيضا مسلوقا أو مقليا." تخيل أسلافه الأوائل وتساءل: "ما الذي تطور أولا الطعام أم الأسنان؟ اللعاب أم اللسان؟ البلعوم أم المريء؟ المعدة أم الأمعاء؟ ياه, إن الأمر محير فعلا" تصور إنسانا تنبت له أسنان قبل أن تكون له معدة, فماذا يصنع؟ أمر عجيب: "هل يسقط الطعام الممضوغ في البطن لا يمسكه شيء؟ لا بد أن الطبيعة تداركت الأمر بطريقة ما؟ لكن كيف عرفت الطبيعة أننا نحتاج إلى الإحساس بالجوع ثم علمت أن مجاوزة الحد في الأكل مضر في معركة البقاء فوهبتنا الإحساس بالشبع؟ لا بد أن بعض القبائل النهمة انقرضت بسبب التخمة لوجود هذه الثغرة في بنيان التطور, فبادرت الطبيعة بابتكار هذا البرنامج الوقائي الكيميائي الدقيق الذي يضبط الجوع والشبع, لكني الآن أتضور من الجوع." شرع يقشر البيضة واقفا ثم التهمها في لمح البصر, لكنه ما يزال جائعا, أخذ رغيف يابسا وشرع يقضمه في شره, ثم أخذ قنينة عسل, فشرع يضع منه على الرغيف ويأكل, كان لفرط جوعه لا يجيد المضغ, كان يزدرد الخبز ازدرادا ويسرطه سرطا, وكان صوت أضراسه وبلعه للطعام يقطع سكون البيت, إلى أن حل ضيف غريب, سمع طنينا عند أذنه, إنها نحلة, شعر بالرعب, إنه يخاف من النحل, صار يركض في المطبخ, لكن النحلة تلاحقه, يبدو أنها عازمة على استخلاص بقايا العسل العالق في شواربه, نظر إليها وهي تطير إليه, رفع كلتي يديه يصدها, لكن فات الأوان لقد أحس باللسعة المؤلمة على أنفه, إن حقنة الطبيب ألطف من هذه الوخزة السامة, ما له وللعسل! يا ليته صبر قليلا, نظر إلى أنفه وقد تضاعف حجمه, ثم نظر إلى النحلة وهي تجود بنفسها وقال متسائلا:
"ماذا استفدت الآن, ها أنت تموتين, عجبا لماذا لم تطوري سلاحا لا يودي بحياتك, يا لها من حماقة, وخزة فيها هلاكك" ثم خيل إليه أنه سمع صوتا يقول له:
"بل أنت ما قيمة حياتك؟ أما أنا فحياتي كفاح, وكدحي شفاء, ووخزي سلاح, وأنت فلأي شيء تحيا ولأي شيء تموت يا بن الأربعين؟"
حينها أيقن أبو الإلحاد أنه صار يهذي من الجوع, ثم سمع صوتا مألوفا يقول:
"عزيزي لحود ماذا جرى لأنفك, ياه كل هذا أنف؟" فأجابها: "أبدا لا شيء, لكني جائع, اشتريت سردينا..." فقاطعته قائلة:
"ألم نتفق أنني لا أدخل المطبخ أيام العطل؟ ضعه في الثلاجة إلى الغد." عندها خرج أبو إلحاد يركض كالمجنون ليشتري شيئا يأكله.

الزوار