السبت، 1 أكتوبر 2011

صراع الأجيال : نسخة إلحادية !

بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..



أطفأ أبو الإلحاد حاسوبه بعد جولة أخرى من إبحاره على أمواج الشبكة العنكبوتية, ولكم ساءه ما صار يلقاه من إهانة في منتديات (الجرب والجذام) من شبيبة الإلحاد. إنه ملحد مخضرم عاش في الزمن قبل الرقمي وشم رائحة الأوراق وقلب بأنامله الصحائف. إنه ليس من هؤلاء المغرورين من حدثاء الأسنان الذين يملئون نفسه الآن غيظا. إنهم ملاحدة لا جدال في ذلك, لكنهم ملاحدة بأسنان الحليب, ولعلهم إنما ألحدوا بسبب جهود أمثاله من جنود (التنوير) المجهولين, لعلهم كانوا يبقون على تدينهم الموروث لو لم يعاصروا ثورة المعلومات, إنهم ملاحدة الصور والأرقام, لا ملاحدة الحروف والأفكار, إنهم ملاحدة الفيسبوك والتويتر, إنهم ملاحدة الجيل الثالث من الهواتف الذكية, لذا فهم موهوبون في أساليب التدليس التقني وفنون التضليل الإلكتروني, إنهم يجيدون (المونتاج) وإن كانوا مفلسين عند الاحتجاج. تجد أحدهم يبتكر فيديو في خمس دقائق يلخص فيه مغالطات المسلمين, لكنه يضمنه فقرات من (نشيد الإنشاد) أو (سفر التكوين)! إنهم أهل حماسة لا كياسة, إنهم أهل طيش ونزق, إنهم أهل تنطع وعجلة, لكن حسبنا أنهم يديرون العجلة, عجلة (التنوير الإلكتروني). إنه مستعد للتغاضي عن كل هفواتهم لو سلم هو نفسه منهم, لكن سهامهم أصبحت تناله, وألسنتهم صارت تنهشه.

ما أشد وقاحتهم ونكرانهم للجميل! لقد أسمعوه اليوم أقذع الشتائم, توقف عن التفكير قليلا وتساءل: "بأي قانون مادي يكون الشتم مذموما من وجهة نظر إلحادية بحتة؟" حدق في الجدار أمامه طويلا وهو يتأمل هذا المعنى الغريب الذي خطر في باله, هل يعقل أن يكون مخطئا في انفعاله؟ ربما كان هؤلاء العفاريت حقا أعمق منه إلحادا على حداثة أسنانهم, الشتم شيء لا وجود له في العالم المادي, هل يمكن أن يكون استنكاره لتلك العبارات القاسية وتلك الكلمات الجارحة مجرد أثر لرواسب مجتمع ما قبل "التنوير؟ ربما كان الأمر كذلك, وهب أن الشتم مذموم لسبب ما, كأن يكون محظورا بسبب التوافق الاجتماعي على ذلك, فلنتصور أن في (العقد الاجتماعي المادي) بندا يقول: "لا تشتم متنورا بما ليس فيه", ثم خطر له أنه غضب لأنهم شتموه ببعض ما هو فيه فعلا , فاستطرد في خواطره: "إذن فليكن البند هكذا: "لا تشتم متنورا أبدا", ما هذا الهراء؟ كيف نفرض على الإنسان المادي قيدا مثل هذا؟ يجب أن نمحو من قاموس المجتمع المتنور هذه القيود الرجعية التي تكبل حريته بسلسلة طويلة من "افعل ولا تفعل", و هب أن شيئا مثل هذا يوجد بالفعل, ماذا لو رفض أحدهم أن يوقع مثل هذا العقد فضلا عن أن يمتثل له؟ ماذا لو احتفظ لنفسه بحقها في الغضب, وفي ترجمة هذا الغضب في صورة شتائم تنفس الحرارة التي يثيرها ارتفاع نسبة الأدرنالين في جسمه, فهل نلومه على هذه السلسلة من التفاعلات المادية؟ أبدا, هل نلوم الماء لأنه يغلي فوق النار؟ هل نلوم الحجر المتدحرج من الجبل؟ أبدا لا عتب على المادة ولا ملام, ولا استدراك على سلوكها الحتمي ولا كلام, كل ماهنالك أنها تفعل ما تأمرها القوانين المادية بفعله, و الانسان مادة, والمادة تخضع لتفاعلات لا تملك حيالها شيئا, فالغضب انعكاس لإفراز الأدرينالين, مما يؤدي إلى سلسلة معقدة من التفاعلات تفضي إلى رد فعل يسمى شتما وسبابا وتقريعا ولعنا, هذا كل شيء, لكن المادة تخضع لحتمية قاهرة, فهل يقال مثل ذلك عنه وهو الإنسان الحر؟ لكن هل هو حر فعلا؟

أحس بالتعب والصداع, وغضب من نفسه وعجب منها كيف تقوده في متاهات سوداء لا يكاد يبصر منها مخرجا. غضب من طوفان الأسئلة التي تنقض عليه من كل حدب وصوب, ولا يكاد يحير لها جوابا, غضب لأنهم شتموه, ثم غضب حين اكتشف أنه لا يستطيع القطع بأن الشتم أمر يستحق أن يغضب لأجله, بل إن تفكيره بلغ به زاوية موصدة لا يكاد يتبين من خلالها إن كان يملك شيئا من أمره, إنه لا يعلم إن كان حرا يملك الاختيار, أم أنه كتلة مادية تزحف على سطح الأرض تحكمها تفاعلات مادية حتمية؟ كل ما يعلمه أنه لا يعلم شيئا, لكنه ما يزال غاضبا, لكنه الآن غاضب على نفسه, يجادلها ويلومها ويسألها: "فيم الغضب؟ " ثم إنه من المشين أن يلوم أحدا على شيء هو فيه, فهو مثلهم شتام سليط اللسان, لكن مهلا, أليس هو نفسه وأقرانه من ربى هؤلاء الصبية وصنعوهم على أعينهم وسقوهم بلبانهم؟ أليس هو من شحذ ألسنتهم وأظفارهم حتى صارت كالأسنة والحراب؟ نعم إنه يقر بذلك, ولكن استعمال ذلك كله يفترض أن يقتصر على إدارة (حرب التنوير) مع المتدينين, ها هو ذا يضبط نفسه مرة أخرى متلبسا باستعمال كلمة ملوثة ميتافيزيقيا: "يفترض" وما للملحد والافتراض؟ الملحد جسم مادي كما أن الزنك والقصدير والفحم أجسام مادية, هل تملك هذه كلها أن تفترض؟ كلا, فلم يفترض إذن وهو ملحد؟ لِم يندم؟ لم يغضب؟ لم يفرح؟ لم يضحك؟ لم يبكي؟ لم يبسم؟ إنه بكل أمانة لا يدري, لكنه يحذر كل الحذر أن يقر مثل هذا الإقرار بين الزملاء وفي منتديات الخصوم, تساءل منكسرا:
"متى يصفو لي الإلحاد؟ ومتى أخلصه من كل هذه الشوائب المتراكمة؟"
إن الزملاء مراتب ثلاث تنصهر كلها في بوتقة الإلحاد دون أن تمتزج تماما, أعلاها وأجدرها بتقديره واحترامه العميقين (طبقة الملاحدة) إنهم علية القوم وزبدة التنوير إنهم ملأ المجتمع المادي. إنك تجد أحدهم في منتداه يصرخ فخورا متحديا:
"إلي أيها المتدينون, هلموا إلي: (أنا ملحد) إنك مهما قلبت عينيك في هذه الشرذمة القليلة من رواد (الإلحاد الإلكتروني) فلن تجد شيئا اسمه الحياء, لقد تحرروا منه تماما. ودونهم في الرتبة زملاء ألحدوا على استحياء فزعموا أنهم يؤمنون بخالق لا يعرفون له اسما ولا صفة, وهم إنما يريدون هذا الوجود المادي برمته, إنهم يحيدون عن الإقرار بألوهية خالق موجد فيسقطون في تأليه سائر الموجودات, فالكون في عرفهم يستحق كل تبجيل وتعظيم, إنهم ضعفاء الإلحاد, يمسكون عصا التنوير من الوسط فيتسمون (لا دينيين) إنهم لم يبلغوا بعد أن يقولوا كلمتهم صريحة فيلتحقوا بالكوكبة التي تقود قاطرة الإلحاد لكنهم يبقون زملاء جديرين بكل دعم. وفي أدنى مراتب (الإلحاد الافتراضي) زملاء مذبذبون يميلون مع كل هبة ريح, ليس لآرائهم ثبات ولا لإلحادهم أساس. إنهم لا يدرون ولا يعلمون ولا يوقنون إنهم رواد (اللاأدرية). حينها بدأ أبو الإلحاد يتصور مسائل الخلاف بينه وبين هذه الطبقة, ثم استعرض كل الأسئلة العالقة في ذهنه والتي لو أجاب عنها بإنصاف لقال: "لا أدري", فلو سئل: "ما دليل إلحادك؟" أو "كيف أنكرت خالقك؟" أو "كيف تجزم أن لا حياة إلا هذه الحياة؟" أو "كيف جزمت بأن الإنسان جسد بلا روح؟" لما كان له جواب مقنع سوى أن يقول: "لا أدري".

أمر غريب إن الهرم الإلحادي يوشك أن ينقلب رأسا على عقب في رأسه, هل يعقل أنه كان طيلة الوقت يراه مقلوبا؟ لقد كان يرى قمته سفحا, وسفحه قمة, إن أدعياء الإلحاد الخالص في أسفل السلم الإلحادي في واقع الأمر, إنهم في سفح الهرم, إنهم يدعون أمرا لا حقيقة له ولا برهان عليه, إنهم مجرد جعجعة لفظية فارغة, لهذا السبب يكثرون السباب, لهذا السبب يكثرون الضجيج. أحس أنه يوشك أن يحل لغزا طالما حيره, لماذا لا يجيب الملاحدة عن أكبر سؤال للمتدينين:
"أعطونا دليلا واحدا على إنكار الخالق." السبب هو أنهم "لا يدرون ولا يعلمون ولا يوقنون." إذن الزملاء في الفرع اللاأدري من (حزب التنوير) أقوم سبيلا, إنهم أتوا الأمر من بابه, يقولون "لا ندري" ومن قال: "لا أدري" فقد أنصف, ومن كان لا يدري ثم يكابر فلن يأتي بشيء سوى السفسطة والبقبقة اللفظية. أما زملاؤنا (اللادينيون) فهؤلاء يصدق عليهم لقب (منافقي الإلحاد) إنهم متلونون, إنك تعجب من سرعة تقلبهم وتناقضهم, إنهم كائنات حربائية تلبس لكل حالة لبوسها, هؤلاء أولى بأحقر المراتب.

تنهد أبو الإلحاد لما بذله من جهد تنويري مضن, وشعر بشيء من الإرتياح, وقال يحدث نفسه: "يجب أن أغير معلومات الديانة في سيرتي الذاتية, فأنا من اليوم (لا أدري) ولست (ملحدا) بالمعنى الذي كنت أعتز به." خف غضبه قليلا ورضي من أسئلته المتكاثرة أن يؤجل النظر فيها كما يملي عليه منهجه الجديد الذي يرفع الشعار الرنان: (لا أدري).

الزوار