الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

ماذا تعرف عن الدولة المدنية ..

مأخوذ بتصرف وتبسيط من الرسالة التلخيصية الشرعية :
الدولة المدنية : المفاهيم والأحكام ..

بقلم : أبي فهر السلفي (16-3-1432هـ - 19-2-2011م)

1...

أركان الـمصطلح :

1)) الدولة (state) :
 
** في اللغة العربية : 
ترجع مادتها لدوران الحال وانتقاله ، وتختص «الدولة» ـ بضم الدال ـ بالانتقال والتعاقب في أمور الدنيا كالمال والجاه من شخص لآخر أو جهة لأخرى ،و«الدولة» ـ بفتح الدال ـ بانتقال الغلبة في الحرب كأن ينتقل النصر من فئة إلى فئة ، وقيل أن الكلمة بضم الدال وفتحها هما سواء في المعنى
معجم المقاييس» و«لسان العرب» و«الكليات»] .
 
** وأما الدولة في الاصطلاح السياسي فهي : 
«مجموع كبير من الأفراد، يقطن بصفة دائمة إقليما معينا، ويتمتع بالشخصية المعنوية، بنظام حكومي، واستقلال سياسي».
المعجم الوسيط»] .
 
** وتستخدم كلمة «دولة» للإشارة إلى مدلولين:
 
1- كل الأشخاص والمؤسسات الذين ينتظمهم الإطار السياسي للمجتمع.
 
2- مؤسسة الحكومة ، فيستعمل المصطلح هنا في مقابل الشعب.
 
ولم تستعمل هذه الكلمة للدلالة على هذا المعنى إلا في مراحل متأخرة سواء في اللغات الغربية نفسها أو اللغة العربية ، وكانت بدائلها في العربية ألفاظ مثل: 
«الدار ـ الخلافة ـ السلطنة ـ المملكة ـ البلاد» .
وبدائلها في اللغات الغربية مثل :
«(Polis) عند اليونان و(Res Publica) عند الرومان و(Civitas) في العصور الوسطى».
[نقلا عن (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) للمسيري
2/72]

2)) المدنية (Civilization) :

والكلمة مشتقة من المدينة : وتدل على نمط الحياة في المدينة ، معبرة - في رأي بعضهم - عن العناصر الظاهرة الفعالة الـمحركة من بين عناصر حضارة المدينة، وهي بذلك مرادفة للحضارة عند الأكثر، كما تستعمل هذه اللفظة أيضا في كثير من الأوساط الثقافية في مقابل عدة كلمات، تتضح دلالتها ببيانها كالآتي:
 
1- الـمدنية : وهي كمقابل للبداوة :
فهي هنا بمعنى : «الحضارة والعمران».

2- المدنية : وهي هنا كمقابل للعسكرية :
فيقال على هذا مثلا : «لباس مدني ، ولباس عسكري
».

 3- المدنية : كمقابل للدينية :
فيقال : «العلوم المدنية» مقابل : «العلوم الدينية».

4- وفي الفلسفة اليونانية :
يعبر عن إدارة أمور المدينة بـ «السياسة المدنية» ويعرفونها بأنها: 
«علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ؛ ليتعاونوا على مصالح الأبدان ، وبقاء نوع الإنسان».
 
2...

دائرة الـمفاهيم الـخارجة عن محل البحث:

وهي مفاهيم كلمة المدنية : والتي لا إشكال شرعي فيها مثل:

1- الدولة الـمدنية : بمعنى الدولة المتحضرة :

وهي التي تنتشر فيها مظاهر الحضارة العمرانية والثقافية في مقابل : 
«القرية ، أو البادية ، أو الدول المتخلفة حضاريا».
واستعمال هذا المصطلح بهذا المعنى ، والمطالبة بدولة مدنية بهذا المراد لا شيء فيه ، وليس ممنوعا ، وإنما ينظر بعد ذلك لبعض المفاهيم التي قد يعدها البعض من الحضارة والتمدن ، وهي في الواقع غير ذلك مثل : «تبرج النساء»!!
فالإسلام بهذا الاعتبار إنما يدعو لإقامة الدولة على أسس من الـمدنية والتحضر والعمران ، وترتيب نظم تدابير الـملك والحكم ، وتاريخ الخلافة الإسلامية عامر بالنظم الحضارية ، والمظاهر العمرانية ، والنشاطات الثقافية بصورة لا ينكرها إلا مكابر ، وقد كانت الثورة الحضارية التي حركها الإسلام هي الـمؤثر الرئيس في النهضة الحضارية الأوروبية.
 
2- الدولة الـمدنية : بمعنى الدولة غير العسكرية :

وهي التي يتولى الحكم فيها رجل مدني بنظم مدنية ؛ لتولية الحكم ، وليس عن طريق الانقلابات العسكرية والاستيلاء على الحكم بقوة السلاح ونحو ذلك.
واستعمال هذا المصطلح بهذا المعنى ، والمطالبة بدولة مدنية بهذا الـمراد لا شيء فيه ، وليس ممنوعا ، والإسلام يدعو لأن يتولى أمور المسلمين من يرضونه هم ، ويمنع اغتصاب السلطة والقفز عليها على غير إرادة من الشعب ؛ ولذلك كانت البيعة شرطا لازما لصحة تولي الحكم، والخلاف بين الإسلام وبين غيره إنما هو في طبيعة وصور آلية اختيار الناس لـمن يتولى أمرهم ، أما أصل أن يتولى أمر الناس من يرضونه بطريقة مدنية ؛ فهذا أصل عظيم من أصول السياسة في الإسلام .

3...
المفهوم محل البحث :

وإذن؛ فالمفهوم محل البحث لمصطلح «الدولة المدنية» هو :
" الدولة المدنية بالمعنى المقابل للدولة الدينية " !

فإذا تقرر ذلك ؛ فليس لمصطلح «الدولة المدنية» كمقابل لـ «الدولة الدينية» مفهوم واحد ، بل تعددت مفاهيمه بحسب مستعمليه ، وبحسب نوع الدولة الدينية التي استعملوا المصطلح في مقابلها ؛ لذا فسأسلك سبيلا مختلفا لتحرير مفهوم هذا المصطلح يتلخص في بحث مفهوم الدولة الدينية ، والصور التي تتحقق بها في الخارج ، مبينا موقف الإسلام من كل صورة من صور الدولة الدينية ، ثم أقوم بعد ذلك بتحليل مفهوم الدولة المدنية عند من استعملوه كمقابل للدولة الدينية معينا مرادهم بـ «الدولة الدينية» التي يرفضونها ، وهل اقتصروا على رفض دولة دينية معينة معهودة فقط ، أم هم تعدوا ذلك إلى رفض مطلق الدولة الدينية بأي صورة كانت.


4...
الصور الـمحققة لـمفهوم الدولة الدينية :

 يمكن تلخيص النظريات التي تبنى عليها الدولة الدينية «الثيوقراطية» عموما إلى ثلاث نظريات :
 
1- نظرية «الطبيعة الإلهية للحاكم» :
 
هذه النظرية تقول : «إن الله موجود على الأرض يعيش وسط البشر ويحكمهم ، ويجب على الأفراد تقديس الحاكم ، وعدم إبداء أي اعتراض» . هذه النظرية كانت سائدة في الممالك الفرعونية ، والإمبراطوريات القديمة ، وبعض مراحل الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية الشيعية الباطنية.

[«الأنظمة السياسية المعاصرة» للدكتور يحيى الجمل (ص/58)].

2- نظرية «الحق الإلهي المباشر» :
 
هذه النظرية تقول : «إن الحاكم يتم اختياره وبشكل مباشر من الله» ، أي : ما زال الاختيار بعيدا عن إرادة الأفراد ، وأنه أمر إلهي خارج عن إرادتهم.
أبرز سماتها :
1- لا تجعل الحاكم إلها يعبد.
2- الحكام يستمدون سلطانهم من الله مباشرة.
3- لا يجوز للأفراد سؤال الحاكم أو حسابه عن أي شيء.
وهذه النظرية هي التي تبنتها الكنيسة في فترة صراعها مع السلطة الزمنية ، كما استخدمها بعض ملوك أوروبا ـ خاصة فرنسا ـ لتدعيم سلطانهم على الشعب.
النظم السياسية» للدكتور ثروت بدوي (1/6)].

3- نظرية «الحق الإلهي غير المباشر» :
 
الحاكم من البشر ، لكن في هذه النظرية يقوم الله باختيار الحاكم بطريقة غير مباشرة ، حيث يقوم مجموعة من الأفراد باختيار الحاكم ، وتكون هذه المجموعة مسيرة لا مخيرة من الله في اختيار الحاكم.
[«النظم السياسية» لمحسن خليل (ص/20)].
 
وسنعرض لصورتي : «دولة الكنيسة ، والحق الإلهي الملكي» لأنهما بالدرجة الأولى هما المؤثرتين في نشأة مفهوم «الدولة المدنية».

1)) صورة دولة الكنيسة : 
«لتخضع كل نفس للسلاطين العالية ؛ فإنه لا سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله * حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله ، والـمقاومون يأخذون دينونة * لأن الرؤساء ليسوا خوفا للأعمال الصالحة ، بل للشريرة ، أفتبتغي ألا تخاف من السلطان ؟ افعل الخير فيكون لك مدح منه * لأنه خادم الله لك للصلاح ! ولكن إن فعلت الشر فخف ؛ فإنه لـم يتقلد السيف عبثا ؛ لأنه خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر * لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط ، بل أيضا من أجل الضمير * فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا ؛ إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه * فأعطوا الجميع حقوقهم : الجزية لـمن له الجزية ، والجباية لـمن له الجباية ، والـمهابة لـمن له الـمهابة ، والكرامة لـمن له الكرامة * لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضا؛ فإنه من أحب قريبه فقد أكمل الناموس * لأن «لا تزن ، لا تقتل ، لا تسرق ، لا تشهد بالزور ، لا تشته» ، وإن كانت وصية أخري إنما هي متضمنة في هذه الكلمة : «أن تحب قريبك كنفسك» * إن الـمحبة لا تصنع شرا بالقريب ، فالـمحبة إذا تكميل الناموس * هذا ؛ وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم ؛ لأن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا * قد تناهى الليل ، واقترب النهار ؛ فلنخلع عنا أعمال الظلمة ، ونلبس أسلحة النور * لنسلك بلياقة كما في النهار ، لا بالبطر والسكر ، لا بالـمضاجع والعهر ، لا بالخصام والحسد * بل البسوا الرب يسوع الـمسيح ، ولا تهتموا بالجسد للشهوات ، نعمة الله الآب». 
[العهد الجديد ـ «الرسالة لأهل رومية» : (13/1 ـ 14)].
 
هذا هو ما كتبه القديس بولس أشهر مُحرفي النصرانية في رسالته لأهل رومية ، وهذا هو النص الأهم في تاريخ الجدل السياسي حول الدولة الدينية ، وموقف الكنيسة والسياسيين وفهمهم لهذا النص عبر المراحل التاريخية هو ما شكل المفاهيم المتعددة للدولة الدينية ، وسنبدأ من هذا النص مهملين النصوص المتصلة بمحل البحث ، والتي وردت في العهد القديم ، والتي كان لها أثر ـ ولا شك ـ في تشكيل مفهوم الدولة الدينية ، ولكن لضيق المقام سنضطر لإرجاء النظر فيها الآن .

الطور الأول لـموقف الكنيسة من الدولة :
 
«ثم أرسلوا إليه ـ أي : للمسيح عليه السلام ـ قوما من الفريسيين والهيرودسيين ؛ لكي يصطادوه بكلمة ، فلما جاءوا قالوا له : «يا معلم نعلم أنك صادق ولا تبالي بأحد ؛ لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس ، بل بالحق تعلم طريق الله ، أيجوز أن تعطى جزية لقيصر ، أم لا ؟ نعطي ، أم لا نعطي ؟»، فعلم رياءهم ، وقال لـهم : «لـماذا تجربونني ؟ إيتوني بدينار لأنظره»، فأتوا به ، فقال لـهم : «لـمن هذه الصورة والكتابة ؟» ، فقالوا له : «لقيصر» ، فأجاب يسوع : «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» ؛ فتعجبوا منه».
مرقس» : (12/13 ـ 17)].

هكذا يرى النصارى موقف المسيح ـ عليه السلام ـ من الدولة، ومر على هذا النص ـ إن كان المسيح قد قاله ـ ثلاثمائة عام، ولـم يتغير موقف الكنيسة، وها هو الأسقف القرطبي «هوسيوس» يكتب إلى الإمبراطور الروماني «قسطنطيوس»: «الله وضع في يدك هذه المملكة، وإلينا سلم أمور الكنيسة ، مكتوب : «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» .. إذن ليس من حقنا أن نمارس أمور الدنيا .. وليس من حقك أيها الأمير أن تحرق البخور» .
 
إلى هنا : والتفسير الكنسي العلملي لنص بولس السابق ينحصر في احترام قيصر ، وفصل العلاقة بين «الروحي» الدين و«الزمني» الدولة ، وناسب هذا تماما سياسة أباطرة الرومان ، كيف لا، وقد تعدت الكنيسة مرحلة الاحترام إلى جعلها الإمبراطور هو الأسقف الأعلى ، وأنه إنسان مقدس اختير من الله ليكون ممثلا له على الأرض ، ليختلط ما لقيصر وما لله باعتبار آخر يقوم على إعطاء حقوق وصفات دينية للحاكم .
[انظر : «العالـم البيزنطي» لهسي (ص/230»)] .

الطور الأول لـموقف الكنيسة من الدولة :

«وأنا أقول لك أيضا : أنت بطرس ، وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي ، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها * وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات ، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماوات ، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماوات».
متى : 16 (/18 ـ 19)].

لاعتبارات تاريخية لا محل لبسطها هنا بدأت العلاقة بين الكنيسة والدولة في اتخاذ منحنى آخر قويت فيه شوكة الكنيسة ، وضعفت شوكة الدولة بالمقابل ، وفي أواخر القرن الخامس رأينا الأب «جلازيوس» يخاطب الإمبراطور «انسطاسيوس الأول» قائلا : «ومع أن مكانتك مرموقة أيها الإمبراطور ؛ فإن أحدا لا يمكن أن يعلو بنفسه ، بأساليب بشرية ، ليقارب تلك المكانة السامية للذي خاطبه صوت المسيح وفضله على الآخرين .. إن الأمور التي أقرتها الإرادة السماوية ، لا يمكن أن تنتهك بعجرفة بني البشر ، ولا يمكن أن تمحى بأي سلطة».
 
وظلت الكفة تميل إلى ناحية الكنيسة قرنا من بعد قرن حتى لم يأت القرن الحادي عشر إلا وقد طاشت كفة الدولة لصالح كفة الكنيسة ، ولنقرأ خطاب الأب «جريجوري السابع» (1085م) وهو يخاطب رجال الدين مستعيدا نص العهد الجديد الذي صدرنا به بقوله : «ألا فليدرك العالـم أجمع أنه إن كان بمقدوركم الربط والحل في السماء ؛ فإنكم على الأرض قادرون على أن تعطوا الـملك من تشاءون ، وتنزعونه ممن تشاءون في الإمبراطوريات والممالك .. بل إن شئتم : في كل ما يمتلكه البشر ».
 
وأخذت البابوية تظهر على الساحة الدولية ككيان سياسي ، تعقد التحالفات ، والمهادنات ، وتمكن لنفسها في الأرض ، وبدأت وقائع الحرمان الكنسي للملوك والأمراء ، وسيطرت الكنيسة على مقاليد الدولة تماما ، وحملت راية الحروب الصليبية ، وظلت تنتصر في معركة تلو الأخرى من معاركها مع الدولة حتى بسطت الكنيسة رايتها على جميع دول أوروبا في حكومة قوامها الكهنة والأساقفة والكرادلة ، ويرأسها بابا الكنيسة.
 
لتشكل بهذا : النموذج الأشهر لدولة دينية تمثلت أبرز معالـمها في سيطرة البابا بسموه على الحاكم الدنيوي وعلى سلطاته ، فكان الحكم الدنيوي والحاكم الدنيوي تابعين للحاكم الديني ، يولي من يشاء ، ويعزل من يشاء ، ويحرم ما يشاء ، ويبيح ما يشاء ، ويدخل الجنة من يشاء ، ويحرم منها من يشاء ، ولا يجوز الاعتراض عليه ، فتصرفاته معصومة ، مع حياطة ذلك بسياج من التعذيب ومحاكم التفتيش لكل من تسول له نفسه أن يخالف سياسة البابا ، كيف لا وهو نائب الرب في الأرض ، ويقضي باسمه ؟

2)) صورة دولة الـحق الإلـهي الـملكي :
 
تعد هذه الصورة من صور «الدولة الدينية» ، والتي طرحت كمفهوم مقابل لـ«دولة الحق الشعبي» : تعد مبنية أيضا على نفس أساس دولة الكنيسة من أن أصل سلطة الحكم هو أصل ديني ، ولكن تم تطوير هذا المفهوم مع انحسار أثر الكنيسة في تولية الملوك ، بحيث يبقى للملوك نفس النيابة الإلهية رغم ضعف أثر الكنيسة ، وانحسار دولتها ، ولنتأمل الآن هذه العبارات التي نقرأها للأمير «جيمس» الذي أصبح بعد ذلك «جيمس الأول» ملك إنجلترا :
«مركز الملكية أسمى شيء على الأرض ؛ إذ ليس الملوك فقط نواب الله على الأرض ، ويجلسون على عرش الله ، ولكن حتى الله نفسه يدعوهم الآلهة».
 
ويقول شارحه : «وهذا يستتبع بالضرورة أن الملوك هم الذين يخلقون القوانين ويصنعونها ، وليست القوانين هي التي تخلق الملوك وتصنعهم» .
ويقول جيمس أيضا : «لا يجوز شرعا المنازعة في سر سلطة الـملك ؛ لأن معنى ذلك هو الخوض في ضعف الأمراء ، وإزالة الاحترام الخفي الذي هو من حق الذين يجلسون على عرش الرب».
[«تطور الفكر السياسي» لجورج سباين (ص/544)].
 
5...
موقف الإسلام من الدولة الدينية وفق الـمعاني السابقة :

إذا تأملنا في العرض المختصر السابق ، وحاولنا استخراج أهم معالـم مفهوم الدولة الدينية «الثيوقراطية» ، ونظرياتها المؤسسة ، وموقف الإسلام منها ؛ سيظهر لنا بوضوح شديد أن الإسلام يرفض تماما أن يكون لأحد غير نص الوحي حاكمية على الخلق ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يتكلم بوحي يوحى إليه من الله ، وبموته ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقطع الوحي ، ولـم تبق إلا اجتهادات العلماء في فهم هذا الوحي ، فيختلفون ويتفقون ، وليست كلمة واحد منهم بدين يجب اتباعه ، وليست لواحد منهم عصمة ولا شبهها ، ولا يملك واحد منهم مهما عظم قدره أن يولي بنفسه حاكما ، أو يخلعه ، بل ذلك لمجموع أهل الحل والعقد وفق أصول شرعية منصوصة ، ولـم يترك الأمر لأهواء أهل الحل والعقد ، وذهب فريق من فقهاء المسلمين إلى أن رأي أهل الحل والعقد ليس ملزما لعموم الأمة ، ولابد للأمة من إقرار ما ينتهي إليه أهل الحل والعقد ، وأن يرضوا عنه ، ولا يتم لـمن اختاره أهل الحل والعقد الحكم حتى ترضى الأمة وتبايع ، وهذا الحاكم إنما بويع باختيار الشعب ، وهو مأمور أن يحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا طاعة له إن أمرهم بمعصية ، ويجوز عزله وخلعه عن منصب الحكم بشروط معروفة ، وليست له طبيعة إلهية ، ولا يتولى الحكم بحق إلهي مباشرا كان ، أو غير مباشر ، وليس نائبا عن الله ـ عز وجل ـ ، وإنما هو وكيل وكلته الأمة لضبط شؤونها.
 
وبهذا العرض المختصر لأسس نظام الحكم في الإسلام تظهر بوضوح خطوط التقاطع والرفض الإسلامي للدولة الدينية القائمة على النظريات السابقة ، وبمراجعة تفاصيل هذا العرض في مصادر الفقه الإسلامي السياسي يتضح التباين الشديد بين هذا البغي والظلم الكنسي ، وبين دين العدل والمرحمة.
 
6...
مفهوم الدولة المدنية وفق الدافع التاريخي لنشأتها كفلسفة رافضة للدولة الدينية بالمعاني السابق ذكرها.

لقد تكون مفهوم الدولة المدنية عبر كتابات عدد من فلاسفة أوروبا الحديثة ، وسنحاول استعراض مقتطفات من كلامهم ندلل بها على مفهوم الدولة المدنية عندهم ، وكما سنستخلصه من طرحهم.
 
1- «
ميكيافيلي» (1496-1527) :
 
لـم يؤسس «ميكيافيلي» في كتابه «الأمير» لدولة غير دينية تفك عن نفسها قيود الدين والحكم الديني فحسب ، بل أسس لدولة لا تخضع لأي منظومة قيمية ، أو أخلاقية على الإطلاق ، فدولة «ميكيافيلي» لا ينبغي أن تخضع لأي مرجعية مهما كانت تقف حائلا ًأمام الحاكم عن اتخاذ السياسات التي يراها مناسبة ، وكانت تلك هي البذرة الأولى لنزع المطلق الديني ، بل والقيمي عن الدولة.
 
يقول ميكيافيلي
«فمن الخير أن تتصف بالرحمة ، وحفظ الوعد ، والشعور الإنساني النبيل ، والأخلاق والتدين ، وأن تكون فعلا متصفا بها ، ولكن عليك أن تهيء نفسك عندما تقتضي الضرورة ، لتكون متصفا بعكسها» .
ويقول : 
«وفي أعمال جميع الناس ولاسيما الأمراء ـ وهي حقيقة لا استثناء فيها ـ تبرر الغاية الوسيلة».
 
ولا تخطيء عينك نبرة السخرية التي تحدث فيها ميكيافيلي عن الإمارات الكنسية ، ولا محاولته الملتفة للإعراض عن الحديث عنها خوف سطوة الكنيسة ، أو كلامه عن الأثر السيئ للكنيسة بنفس الطريقة الملتفة في «المطارحات» (ص/267-269).
 
ويهمنا الآن الإشارة لبداية ظهور المصطلح في الباب التاسع من كتاب «الأمير» والذي كان عنوانه : «
في الإمارات المدنية» ويقول ميكيافيلي في مطلعه
«ولكنا نصل الآن إلى الحالة التي يصبح فيها مواطن أميرا برغبة أقرانه المواطنين ، وليس بالجريمة أو العنف الذي لا يطاق ؛ وقد تسمى هذه الحالة بـ«الإمارة المدنية» ، وبلوغ هذه الولاية لا يتوقف بتاتا على الجدارة أو الحظ ، ولكنه يعتمد بالأحرى على المكر يعينه الحظ ؛ لأن المرء يبلغها برغبة الشعب ، أو بإرادة الطبقة الأرستقراطية» . [الأمير (ص/241)].
 
وإذن ؛ فمشاركة ميكيافيلي في وضع أسس مفهوم الدولة المدنية تتمثل في إرسائه لمعنيين ذوي أثر في مفهوم الدولة المدنية عند هذه الطبقة من فلاسفة أوروبا:
1-
نزع المطلق الديني والقيمي عن تصرفات السياسي.
2-
توضيح آلية اختيار الأمير عبر الإرادة الشعبية ، أو باختيار طبقة النبلاء، وتسمية ذلك بالإمارة المدنية.

2- «جان بودان» (1530ـ 1596) :
 
في عام (1576م) نشر الفرنسي «جان بودان» كتابه «
ستة كتب عن الجمهورية» ، وأعاد نشره بعد توسعته عام (1586م) ، وترجم للإنجليزية عام (1606م).
يقول «جورج سباين» : «وترجع أهمية الكتاب إلى أنه أخرج فكرة السلطة ذات السيادة من سجن اللاهوت ، حيث تركتها نظرية الحق الإلهي» . (ص/548).
يقول جان بودان :
" إن العلامة الأولى للأمير المتمتع بالسيادة،هي قدرته على منح القوانين للجميع على وجه العموم،ولكل واحد على وجه التخصيص،بغض النظر عن رضا من هو أعلى ومن هو مماثل ومن هو أدنى،ومهما كان نوعه؛ذلك لأنه إذا ما كان الأمير ملزما على ألا يضع القانون إلا بموجب رضا الأعلى أي أعلى = فإنه سيكون واحدا من الرعايا ،سواء تمثل هؤلاء في مجلس الشيوخ ،أو في الشعب،فإنه سوف لا يكون صاحب سيادة)).

وهكذا ينحل جان بودان من أي قيد قيمي أو ديني أو حتى شعبي يقيد الملك أو سلطاته في إصدار القوانين،وهو وإن تكلم عن وجوب مراعاة الخير العام أو الملكية الخاصة فهذه نفسها عنده لا تختلف عن وجوب سيادة الأمير سيادة مطلقة فهي مجموعة من المسلمات المسبقة لحفظ الحكم وليست قيودا تفصيلية تظهر عند وضع القوانين،ولذلك فقد أكد هو على أنه لا يتصور أن يقع الأمير في مخالفة ذلك إلا نادرا.

3- «توماس هوبز» (1588ـ 1679) :

في عام (1651م) أصدر «توماس هوبز» كتابه «اللوباثان» (Leviathan) وهو لفظ عبري من مصطلحات العهد القديم يصف وحشا بحريا هائلا يشبه التنين .
ومراد هوبز هو : أن على البشر أن يحكموا بواسطة دولة تكون على غرار التنين ، حتى تقوم بحمايتهم ،وفرض أسس النظام والمدنية على الإنسان الذي لا يصير مدنيا سوى بهذه الطريقة، وفي هذا الكتاب تعرض هوبز للدولة الدينية وطبيعة دولته التنين ، وموقفها من الحكم الديني ، ودفعه لهذا البحث أن هوبز قد اختار نظام الحكم الشمولي وفضل منه الملكية المستبدة كنظام مثالي للحكم ، ويصل الملك للحكم باختيار الأغلبية ، ولكنه لـم يجعل على هذا الملك قيدا حقيقيا بعد وصوله للحكم سوى منعه من قتل الأفراد ، أما ما دون ذلك فللملك سلطة مطلقة لا يحد منها شيء ، ولا يجوز الاعتراض عليه ، ولا الثورة عليه ، وأن للحاكم أن يراقب كل تعبير عن الرأي ، وألا يسمح بحق التمرد والعصيان وأن يقمعه كما يشاء ، والإنسان في نظر هوبز : 
"كائن غير منظم يحتاج لسلطة ذات سيادة مطلقة ؛ لتجعله مدنيا"!
[«موسوعة الفلسفة» لعبد الرحمن بدوي (2/562)].

وهذه مقتطفات من نصوص أقوال «هوبز» من كتابه في دعوته لفصل الحكم عن مطلق الدين:

1- «إن الحكومة الزمنية والحكومة الروحية لفظان لـم يظهرا إلى العالـم إلا ليحدثا ازدواجية عند الناس ، بحيث يخطؤون معرفة الحاكم الشرعي» (ص/300)

2- «إن التمييز بين الحكومة الروحية ، والحكومة الدنيوية زائف ، فكل حكومة في هذه الحياة حكومة الدولة وحكومة الدين مؤقتة تحت أمر صاحب سيادة مدني واحد» (ص/189)

3- 
«لا يستطيع الإنسان أن يخدم سيدين, ولا يمكن للسلطة الروحية أن تنفصل وتستقل عن السلطة الزمنية ، كما أن الحكومة المشتركة ، أو الـمختلطة بينهما ، ليست حكومة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، فلم يبق سوى أن تخضع إحداهما للأخرى ، أعني أن تخضع السلطة الروحية لسيطرة الدولة ، فالأخطاء التي وقعت فيها الأمم بسبب السلطة الروحية لا حد لها، ولهذا كان لابد أن نحدد بدقة المكانة التي يشغلها الدين داخل الدولة ، وأن نبين حدود السلطة الروحية»

قلت : وهذه الحياة الروحية عنده تقتصر حريتها على الحياة الداخلية للإنسان ، أم السلوك الخارجي مهما اتسع نطاقه أو ضاق فهو خاضع لسيطرة السلطة الحكومية ورقابتها.
[انظر : «
توماس هوبز .. فيلسوف العقلانية » : (ص/289)] .

فقد اتضحت معالـم الدولة المدنية التي يدعو لها هوبز ، وأنها كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري
: «يصبح قانون الدولة القانون المطلق الذي يفرضه الملك فرضا ، والدولة هنا أصبحت حرفيا هي «المطلق» ، و«المرجعية النهائية» ، ومن هنا قام هوبز بتأليه الدولة ، واعتبرها إلها زمنيا مرتبطا بالإله الخالد ، وقد اعتبرها أيضا التنين الحتمي».
[
العلمانية الجزئية ، والعلمانية الشاملة : 2/76]

تبقى فائدة مهمة : وهي أن توماس هوبز لـم يمانع في أن تكون قوانين وأحكام الدين قانونا يحكم في الناس بشرط أن يكون ذلك باختيار السلطة المدنية ، ولا يفرض عليها من قبل المؤسسة الدينية ، ويتحول النص المقدس ساعتها إلى قانون مدني ويستمد قوته من هذه الناحية لا من كونه دينا ، فيقول : «إن الكتاب المقدس لا يصبح قانونا إلا إذا جعلته السلطة المدنية الشرعية كذلك» (ص/258). 

ويمكن مراجعة صحة فهمنا لها في «
توماس هوبز .. فيلسوف العقلانية» للدكتور إمام عبد الفتاح إمام (ص/429).

ولا يعارض هذا ما ذكرناه من أن هوبز يدعو لدولة مطلقة عن القيم والدين ؛ لأن هوبز لـم يجعلها مطلقة عن القانون المدني الذي يختاره الملك ، وهو لا يستطيع أن يقيد الملك أو يمنعه إن أراد أن يجعل أجزاء هذا القانون مأخوذة من النص الديني ، وسنعود لهذه الملاحظة بعد ذلك.


4- «اسبينوزا» (1632-1677) :

لـم يخرج اسبينوزا كثيرا عن الخطوط التي رسمها أسلافه من تقرير الأغلبية كوسيلة لوصول الحاكم في الدولة المدنية ، ثم إطلاق هذه الدولة عن مطلق القيد من الدين وغيره ، فيقول في «رسالة في اللاهوت والسياسة
»
«إن كل شخص في حالة الطبيعة ملزم بالقانون الموحى به كما أنه يعيش طبقا لنظام العقل ؛ لأن ذلك ضروري لمصلحته ولخلاصه ، ولكنه في ذلك حر أن يرفض ذلك متحملا ما ينتج عن رفضه من مخاطر وأضرار ، وهو أيضا حر في أن يعيش كما يشاء لا كما يشاء الآخرون ، وليس عليه أن يعترف بأي مخلوق حكما أو مدافعا عن حق الدين ، هذا الحق ـ في رأيي ـ هو الذي تتمتع به السلطة العليا ، التي تستطيع أن تأخذ رأي الأفراد دون أن تكون ملزمة بالاعتراف بأي فرد حكما ، أو بأي مخلوق من فوقها مدافعا عن أي حق (تأمل إطلاق يد الدولة فوق كل المرجعيات) إلا إذا كان نبيا بعثه الله وبرهن بآيات لاشك فيها على بعثته ، وحتى هذه الحالة ، تلتزم السلطة العليا طاعة الله فيما أوحي به من قانون ، فهي حرة في ذلك ، وعليها أن تتحمل ما ينتج عن ذلك من أضرار أو أخطار ، أعني أنه لا يمكن أن يقف في سبيل ذلك أي قانون مدني أو طبيعي ؛ إذ يعتمد القانون المدني على مشيئة هذه السلطة وحدها ، أما القانون الطبيعي فإنه يعتمد على قانون الطبيعة الذي لا علاقة لها بالدين ، والذي يتخذ المصلحة الإنسانية هدفه الوحيد بل تتعلق بنظام الطبيعة الشامل ..
وقد يسألني سائل :  

«ما العمل إذا ما أعطت السلطة العليا أمرا مناقضا للدين .. هل يجب الخضوع للآمر الإلهي أم للآمر البشري ؟»

أقول هنا : عليه أن يطيع الله قبل كل شيء عندما يكون لدينا وحي يقيني لا شك فيه ، ومع ذلك فلما كان اختلاف طبائعهم يولد بينهم ما يشبه المنافسة على الأوهام الباطلة ، كما تشهد التجربة اليومية مرارا وتكرارا ، فمن الـمؤكد أنه لو لـم يكن الـمرء ملزما بموجب القانون بطاعة السلطة العليا ـ فيما يظنه من أمور الدين ـ ؛ لأصبح قانون الدولة متوقفا ـ ولا شك ـ على الأحكام الشخصية ، وعلى الانفعالات الفردية ؛ إذ لا يلتزم أحد بالقوانين الجارية إذ ظن أنها مخالفة لعقيدته أو خرافته ، وبهذه الحجة يسمح كل فرد لنفسه أن يفعل ما يشاء ، ولـما كان قانون الدولة ينتهك كلية في هذه الحالة ، فإن السلطة العليا التي هي المكلفة وحدها بناء على حقها الإلهي وحقها الطبيعي بالمحافظة على حقوق الدولة وحمايتها يكون لها الحق المطلق في اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة في موضوع الدين ، وعلى جميع الأفراد الالتزام بطاعة قرارات السلطة العليا وأوامرها في هذا الصدد ؛ نظرا إلى الولاء الذي وعدوها به ، والذي يأمر الله بالالتزام به التزاما تاما ، فإذا كان ممثلو السلطة وثنيين ؛ فإما أن يرفض المرء عقد أي اتفاق معهم ، ويتعرض لأبشع الأضرار ، دون أن يفوض لهم أي حق ، وإما أن يظل على الولاء والطاعة لهم ، ويحفظ عهده لهم إن طوعا وإن كرها ، إذا ما تم له عقد اتفاق معهم وتفويض الحق لهم»
رسالة في اللاهوت والسياسة» : (ص/380-381)]

ويتطرف أكثر ويأبى حتى إشراف أهل الدين على شؤونه ، فيقول : «فلا شك أن تنظيم شؤون الدين يقع على عاتق السلطة الحاكمة وحدها»

ونرى عند اسبينوزا نفس الملاحظة المهمة التي ختمنا بها حديثنا عن هوبز ، فنراه يقول : «إن الدين لا تكون له قوة القانون إلا بإرادة من له الحق في الحكم» .
[(ص/422) ، وانظر : (ص/424)]

وهذا يصب في نفس المعنى أن اختيار الحاكم من الدين ما يسري في الناس كقانون مدني لا يتنافى عند اسبينوزا ومن قبله هوبز مع مفهوم الدولة المدنية ، والدين عندهم حين يختار منه الحاكم ؛ فهو يختار منه باعتباره مجرد تعاليم عقلية يختار منها ولا يلزم بها.
5- «جون لوك» (1632-1704) :

رغم كون لوك هو آخر الفلاسفة المنظرين للدولة المدنية من جهة أصالة التنظير ؛ إلا أن مفهومه لها هو أكثر المفاهيم شيوعا عند المتكلمين في هذه القضية ، ولربما ظن بعضهم أن هذا المفهوم هو ما كان يقول به «هوبز» أو «ميكيافيلي» ، وهذا غير صحيح ، والصورة المتكاملة للدولة المدنية كما تسبق للأذهان الآن والقائمة على مؤسسات المجتمع المدني ، والعقد القائم بين الأفراد وبين السلطة العليا التي وصلت لمنصبها بالانتخاب ، وبأغلبية الشعب ، والحفاظ على مبدأ فصل السلطات ، وحق الشعوب في الاعتراض والثورة ، هذه الصورة المركبة الشائعة = لا تكاد توجد مكتملة كمفهوم للدولة المدنية سوى عند جون لوك دون باقي من ذكرناهم من فلاسفة الدولة المدنية
.

فقد خالف جون لوك اسبينوزا في أنه لم يجعل للحاكم المدني سلطة على الكنيسة ، وخالف توماس هوبز مخالفة عنيفة فدعا إلى فصل السلطات ، وإلى حق الشعب في الثورة على الاستبداد ، مخالفا تقريرات توماس هوبز ، ووافقه في وصول الحاكم لسدة الحكم بالانتخاب والأغلبية ، لكنه حافظ على نفس حالة المفاصلة للدين ، ونزع المطلق عن الدولة.

يقول جون لوك : «ينبغي التمييز بوضوح بين مهام الحكم المدني ، وبين الدين وتأسيس الحدود الفاصلة بينهما..» (ص/23).

وبعد أن يشرح مهام الحاكم المدني المنحصرة في إدارة شؤون الدولة يقول: «وتأسيسا على ذلك أود أن أؤكد أن سلطة الحاكم لا تمتد إلى تأسيس أية بنود تتعلق بالإيمان أو بأشكال العبادة استنادا إلى قوة القوانين» (ص/26).

ثم يقول : «كل ما أريد قوله : هو أيا كان مصدر السلطة فإن السلطة مادامت ذات طابع كنسي ؛ فيجب أن تكون مقيدة بحدود الكنيسة إذ ليس في إمكانها بأي حال من الأحوال أن تمتد إلى الشؤون الدنيوية ؛ لأن الكنيسة ذاتها منفصلة عن الدولة ، ومتميزة عنها تماما ، فالحدود بينهما ثابتة ومستقرة ، ومن يخلط بين هذين المجتمعين كمن يخلط بين السماء والأرض» (ص/36).

ويقول : «ليس من حق أحد أن يقتحم ، باسم الدين ، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية».

ويقول : «الكنيسة والدولة إذا قنع كل منهما بالبقاء في داخل حدوده ، الدولة ترعى الرفاهية الداخلية للدولة ، والكنيسة تنشغل بخلاص النفوس ؛ فإنه من المحال أن يحدث بينهما شقاق» (ص/65).

ويقول : «فن الحكم ينبغي ألا يحمل في طياته أية معرفة عن الدين الحق»

ويقول : «ما هو قانوني في الدولة لا يمكن للكنيسة أن تجعله محرما أو ممنوعا»

ويقول : «من الغباء أن يتصور المرء أن أي إنسان يمكن أن يكون ملزما في النهاية بطاعة أي سلطة في المجتمع إلا إذا كانت هي السلطة العليا»
الرسالة الثانية في الحكم » : (ص/334 ـ العقد الاجتماعي)]


7...

موقف الإسلام من نظرية الدولة الـمدنية وفق الأساس الفلسفي السابق شرحه..
1)) سبق بيان رفض الإسلام المطلق والتام للدولة الدينية «الثيوقراطية» المبنية على إحدى النظريات الثلاث السابق شرحها ، وبهذا يسبق الإسلام فلاسفة الدولة المدنية في رفض تلك الدولة «الثيوقراطية».



2)) ويسبق الإسلام أيضا فلاسفة الدولة المدنية في تقرير كون الشعب هو أساس اختيار الطبقة الحاكمة ، ورفض الحكم المغتصب على غير إرادة الشعب ، على خلاف في آليات تعيين إرادة الشعب ، ليس هنا محل طرحها.


3)) ويسبق الإسلام «جون لوك» إلى رفض النظرية الاستبدادية التي طرحها «توماس هوبز» للسيادة الملكية ، ويسبق الإسلام «جون لوك» في رفض ما طرحه «اسبينوزا» حول سلطة الحكومة في تفسير الدين ، ويسبق الإسلام «جون لوك» إلى تقرير أنه : «لا طاعة لـمخلوق في معصية الخالق» ، وإلى تقييد سلطة الحاكم في الأمور الدينية وفق نصوص الشرع.
4)) ومفهوم السيادة في الإسلام خلاصته أنه لا سيادة لفرد (سواء من الأمراء أو العلماء أو العامة) ولا لجماعة (بمجردها) على الأمة، والسيادة التي على الأمة وعلى الحاكم الذي ستختاره الأمة هي لنص الوحي ،مع وجود آليات لفهم نص الوحي (كتابا وسنة) ليس بينها آلية تفيد عصمة ولا سيادة لأحد على الأمة.
5)) ويبقى محل الخلاف الرئيسي هو في رفض الإسلام التام وإبطاله المطلق لعزل الدين داخل دور العبادة كما يطرح ذلك «جون لوك» ، أو جعل قوانين وتشريعات الدين مجرد أحكام عقلية لا تتحول لقوانين ملزمة إلا إذا اختار ذلك الحاكم المدني كما يقول «هوبز» و«اسبينوزا».


ولابد من التنبيه هنا على أمر مهم وهو :

أنه لاشك في كون الكنيسة ، وطبيعة تشريعاتها المحرفة والمنقوصة ، وطبيعة الخلاف بينها وبين الحكم الزمني هي أساس وسبب ولادة هذه النظرات الفلسفية للدولة المدنية ، لكن ما سبق أن دللنا عليه من عبارات الفلاسفة المذكورين يشير إلى أنهم لا يقصدون بالدين مجرد المسيحية أو أنهم قد يقبلون مرجعية متجاوزة أخرى دينية أو أخلاقية ، بل نصوصهم واضحة في رفضهم لأي سلطة مقيدة لقوانين الحاكم سواء من قال منهم أن القوانين يضعها الحاكم بنفسه ، أو من قال منهم باشتراك الحاكم والسلطة التشريعية البرلمانية في وضعها ، وسواء من نصح بالاستهداء بالعقل والقانون الطبيعي منهم ، ومن لم ينصح ، فالقدر الثابت لديهم جميعا هو :
رفضهم لأي مرجعية متجاوزة دينية أو أخلاقية تكون لها سلطة أعلى من السلطة التشريعية !!..


فالأمر قد تجاوز المسيحية إلى مطلق الدين والمرجعيات المتجاوزة ، ولابد من التنبه لهذه الحقيقة ؛ لكي نكتشف بسهولة بعد ذلك خطأ صياغة بعض كاتبي الإسلام السياسي لمفهومهم للدولة المدنية.

ونعود فنقول : إن الإسلام يرفض بشكل مطلق وتام عملية العزل له عن الحياة المدنية والسلطة التشريعية ، فالإسلام دين تام شامل لجميع مناحي الحياة يحكمها بالنص تارة ، وبالسكوت والعفو أخرى ، والحاكم في التصور الإسلامي له نطاقان في التشريع :


1- «الاجتهاد في فهم ما نص عليه من أحكام الشرع وتطبيقه».
2- «الاجتهاد في التشريع للأمة فيما لا نص فيه ، وفيما سكت عنه الشرع».


وهذا الاجتهاد من الحاكم قد يكون بنفسه تارة إن كان من أهل الاجتهاد كعمر بن الخطاب مثلا ، أو بواسطة مشورة العلماء ومراجعتهم تارة كما كان يفعل عمر أيضا وكحال أكثر حكام المسلمين.


ونصوص الوحي الدالة على ذلك التقرير السابق أشهر من أن تذكر .
وبالتالي فمفهوم الدولة عند هؤلاء الفلاسفة هو مفهوم لدولة مدنية مطلقة عن أي مرجعية متجاوزة ، وهذا المفهوم المتغول المتوحش لا يقبله الإسلام ، ويرى فيه تضييعا للشعوب ، وإهدارا لكرامتهم ، وتسييرا لمصائرهم ، بحيث تكون تحت سلطة عقول قاصرة لا يمكن موازنتها قط بحكم الله الحكيم العليم الخبير الذي اختاره لعباده ، مع تفريق الإسلام الدائم والمستمر بين الوحي ، وبين فهم المجتهدين للوحي، فلا يعطي لهذا الفهم قداسة بمجرده ، وإنما بما مع هذا الفهم من الحجج الدالة على أن هذا الفهم هو مراد الله بالوحي.


فهذه الدولة المطلقة عن أي مرجعية ، أو التي تتعامل مع الدين بالاختيار وبمجرد الذوق والهوى لا يقبلها الإسلام ويراها جاهلية ما أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا لإزالتها : 

"أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"
المائدة 50 ..
 


8...

الدولة الـمدنية كما يتصورها بعض منظري الإسلام السياسي...


دارت مناقشات حادة بين بعض فقهاء الإسلام المعاصرين ، وبين العلمانيين والليبراليين حول مفهوم الدولة المدنية ، وكان من أثر هذه المناقشات أن شاع في كتابات أولئك الفقهاء الذين سميتهم هنا بـ (مُـنظري الإسلام السياسي وتسمية السياسي هنا باعتبار الباب الفقهي فقط ، وليس باعتبار أن هناك إسلاما غير سياسي ـ شاع بينهم مفهوم معين للدولة المدنية رأوا أنهم عالجوه بحيث صار لا يتعارض مع الإسلام ، ويمكن استعماله بلا حرج ، بل ويمكن القول- بحسب رأيهم - أن الإسلام باعتبار ما لا يعارض الدولة المدنية .

ويمكننا تلمس هذا المفهوم من خلال نصوصهم التالية :

1- الشيخ محمد عبده :
في بداية القرن الحالي نشر الشيخ في جريدة «الأهرام» مقالات شهيرة في الرد على «هاناتو» الذي ترجمت الأهرام عن الفرنسية انتقاداته للإسلام، وفي رده قال الشيخ محمد عبده
"يقول مسيو هاناتو : إن أوروبا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وهو كلام صحيح، ولكن لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين، لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا عند الأمم المسيحية ،عندما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقررالضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية"!
ثم يضيف الشيخ :
"وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية. وإنما السلطان مدير البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب أو بالسياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم، وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم ورفع المظالـم"

وفي موضع آخرعن النصرانية والإسلاميعدد الشيخ محمد عبده أصول الإسلام مشيرا إلى أن من بينها (قلب السلطة الدينيةوتحت هذا العنوان يقول :
" هدم الإسلام بناء تلك السلطة الدينية ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم !!.. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه"
ثم يوضح فكرته بعد ذلك بقوله :
"ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوكراتيك) أي : سلطان إلهي ؛ فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله"

ويضيف :
"ثم هم يضلون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم : أن السلطان هو واضع أحكامه، وهو منفذها وهذا كله خطأ محض"

ثم يقول الشيخ :
"ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين، ويقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم"
[الأعمال الكاملة (1/107)]

2- الشيخ يوسف القرضاوي :

يقول الشيخ القرضاوي :
"الدولة الإسلامية التي يقيمها الإسلام ويدعو إليها الإسلاميون : ليست هي (الدولة الدينية الثيوقراطيةالتي استقيتم صورتها من الكنيسة الغربية في عصورهم الوسطى !!.. فالخطأ كل الخطأ : الظن بأن الدولة الإسلامية التي يدعو إليها الإسلاميون «دولة دينية» إنما الدولة الإسلامية إذا نظرنا إلى المضمون لا الشكل ، وإلى الـمسمى لا الاسم «دولة مدنية مرجعها الإسلام» ، وهي تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى ، ومسؤولية الحاكم أمام الأمة ، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح لهذا الحاكم ، يأمره بالمعروف ، وينهاه عن المنكر .. والحاكم في الإسلام واحد من الناس ليس بمعصوم ولا مقدس . يجتهد لمصلحة الأمة ؛ فيصيب ويخطئ .. وهو يستمد سلطته وبقاءه في الحكم من الأرض لا من السماء ، ومن الناس لا من الله ، فإذا سحب الناس ثقتهم منه ، وسخطت أغلبيتهم عليه لظلمه وانحرافه ؛ وجب عزله بالطرق الشرعية ، ما لم يؤد ذلك إلى فتنة وفساد أكبر ، وإلا ارتكبوا أخف الضررين ، والحاكم في الإسلام ليس وكيل الله ، بل هو وكيل الأمة ، أو أجيرها ، وكلته إدارة شؤونها ، أو استأجرته لذلك .. والدولة الإسلامية لا يقوم عليها «رجال الدين» بالمعنى الكهنوتي المعروف في أديان عدة ؛ فهذا المعنى غير معروف في الإسلام ، إنما يوجد علماء دين من باب الدراسة والتخصص ، وهذا باب مفتوح لكل من أراده وقدر عليه"
[التطرف العلماني في مواجهة الإسلام : ص74-77 باختصار]

ويقول :
" وأما من استدل من الكتاب المعاصرين على أن الدولة الإسلامية دولة دينية - على معنى أنها تحكم بالحق الإلهيبأنها تقوم على عقيدة الحاكمية الإلهية = فالحق أن فكرة الحاكمية أساء فهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يُرده أصحابها. أما الحاكمية بالمعنى التشريعي، فمفهومها : أن الله سبحانه هو المشرع لخلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم: ولا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، وأنهم يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل وتعزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل" 
[الدين والسياسة : ص 165]
3- الدكتور محمد عمارة :

ويقول الدكتور محمد عمارة :
" الدولة الإسلامية دولة مدنية تقوم على المؤسسات ، والشورى هي آلية اتخاذ القرارات في جميع مؤسساتها ، والأمة فيها هي مصدر السلطات شريطة ألا تحل حراما، أو تحرم حلالا ، جاءت به النصوص الدينية قطعية الدلالة والثبوت، هي دولة مدنية ؛ لأن النظم والمؤسسات والآليات فيها تصنعها الأمة ، وتطورها وتغيرها بواسطة ممثليها ، حتى تحقق الحد الأقصى من الشورى والعدل ، والمصالح المعتبرة التي هي متغيرة ومتطورة دائما وأبدا ، فالأمة في هذه الدولة المدنية هي مصدر السلطات ؛ لأنه لا كهانة في الإسلام ، فالحكام نواب عن الأمة ، وليس عن الله ، والأمة هي التي تختارهم ، وتراقبهم ، وتحاسبهم ، وتعزلهم عند الاقتضاء ، وسلطة الأمة ، التي تمارسها بواسطة ممثليها الذين تختارهم بإرادتها الحرة : لا يحدها إلا المصلحة الشرعية المعتبرة ، ومبادئ الشريعة التي تلخصها قاعدة : "لا ضرر ، ولا ضرار" .. والدولة الإسلامية دولة مؤسسات ، فالمؤسسة مبدأ عريق في الدولة الإسلامية ، تستدعيه وتؤكد عليه التعقيدات التي طرأت على نظم الحكم الحديث ؛ ولأن الدولة الإسلامية دولة مؤسسات ، كانت القيادة فيها والسلطة جماعية ترفض الفردية ، والديكتاتورية ، والاستبداد ، فالطاعة للسلطة الجماعية ، والرد إلى المرجعية الدينية عند التنازع"
[في النظام السياسي الإسلامي ص45-47 باختصار]
التعليق

المتأمل فيما تقدم نقله ، وفيما يشبهه كثيرا من كلام هذه الطبقة من أهل العلم ؛ يلاحظ أنهم تعاملوا مع مفهوم الدولة المدنية بنفس المنهج الذي سبق وتعامل به غيرهم مع مفاهيم «الاشتراكية ـ الرأسمالية ـ الديمقراطية» ، وهو منهج يقوم على تفكيك المصطلح ، واستخراج بعض المفردات المفاهيمية : ثم قبولها بناء على وجود ما رأوا هم أنه مطابق له في الإسلام ، ثم الانتقال أخيرا إلى القول بأنه:

لا تعارض بين الإسلام وبين هذا المفهوم  .


ومن هنا : فهناك ثلاث دوائر للنظر في تقييم هذا المنهج

1))
دائرة النظر في عملية تفكيك المصطلح التي قاموا بها ، وهل فاتهم في هذا التفكيك مفردات مفاهيمية لا يمكن عزلها عن المصطلح ، بل هي كامنة فيه كمونا حيويا ، بحيث يعد فصلها عنه بمنزلة توليد وتطوير دلالي للمصطلح ، بحيث يكون استعمال هذا المصطلح بعد التفكيك العازل هذا لا يخلو من نوع من المغالطة ؛ لعدم توارد المصطلح الفلسفي محل البحث ، والمصطلح الـمولد على محل واحد؟
2))
دائرة النظر في المفاهيم الإسلامية التي رأى أولئك العلماء أنها مطابقة للمفاهيم التي انتزعوها من المصطلح ، وهل حالة التطابق تامة ، أم هناك تكلف في المطابقة ، وفروق مؤثرة ؟

3))
دائرة حكم استعمال اللفظ الـمعين محل البحث للتعبير عن المعنى الذي رآه أولئك العلماء معنى صحيحا جاء به الإسلام ، ومحل النظر هنا هو على الحالتين ؛ حالة سلامة المعنى وصحته كليا ، أو حالة وقوع الخلل في دائرتي النظر السابقين أو إحداهما.
ونظرا لضيق مقام هذه الورقة ؛ فسنكتفي بالنظر في الدائرة 1)) ، والاكتفاء ببيان وقوع الخلل فيها ، والانتقال إلى الدائرة 3)) ؛ إذ الدائرة 2)) يعوزها بحث شاق .

الدائرة 1)) :
لقد أقبل العلماء المذكورون على مصطلح الدولة المدنية ، ففككوه وتناولوا منه أمرين رئيسيين :
1 ـ كونه مصكوكا لمواجهة الدولة الدينية الكنسية ، ومفهوم الحق الإلهي .
2 ـ بعض آليات ومعالـم الدولة المدنية خاصة كما قررها «جون لوك» ؛ إذ لا يبدو أي أثر في كلام أولئك العلماء يدل على أنهم تتبعوا تطور هذا المفهوم ومضامينه عند الذين قرروه ، وإلا لانتبهوا إلى التضارب الشديد في بعض هذه الآليات بين «جون لوك» مثلا ومن سبقه .

وبهذا يكون قد فات أولئك العلماء جزء عظيم الخطر من مفهوم الدولة المدنية عند المتكلمين به بما فيهم (جون لوك) وهو عدم قبول السلطة العليا الحاكمة لأي استمداد ملزم للقانون من الدين ، بل ومن أي مرجعية متجاوزة .
وبالتالي : فعندما يأتي الشيخ القرضاوي مثلا فيقول  :
"إن الحاكم في الإسلام مقيد ، غير مطلق؛ فهناك شريعة تحكمه ، وقيم توجهه ، وأحكام تقيده ، وهي أحكام وضعها له ولغيره رب الناس ، ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام أو يجمدوها ، فلا ملك ، ولا رئيس ، ولا برلمان ، ولا حكومة ، ولا مجلس ثورة ، ولا لجنة مركزية ، ولا مؤتمر للشعب ، ولا أي قوة في الأرض تملك أن تغير من أحكام الله القطعية الثابتة والدائمة شيئا"
[التطرف العلماني : ص 76]

وعندما يقول الدكتور محمد عمارة :
"والأمة فيها هي مصدر السلطات شريطة ألا تحل حراما ، أو تحرم حلالا جاءت به النصوص الدينية قطعية الدلالة والثبوت"

فهما ومن يقرر هذا التقرير القائم على حاكمية الله (حتى بمعناها الصحيح) من أهل العلم يكونون بهذا مناقضين لركن رئيسي من أركان مفهوم الدولة المدنية ، تلك الدولة التي لا ترفض دولة الكنيسة «الثيوقراطية» فحسب ، بل ترفض أي مرجعية متجاوزة من دين أو خلق تكون لها سلطة إلزامية تفوق السلطة العليا .

وبالتالي : فإن للعلماني أو الليبرالي أن يتهم المشايخ الأفاضل بالمغالطة المنطقية الاستدلالية ، ونوع المغالطة التي وقع فيها الأساتذة هنا هي إطلاق الألفاظ على غير معانيها محل البحث ، باستغلال وجود شبه ما ، أو تقارب ما ، أو تشارك من بعض الوجوه بين معانيها الأصلية والمعاني التي أطلقت عليها في المغالطة التزييفية.

فعندما يقول العلماء المذكورون :
" إن دولة الإسلام مدنية
يسألـهم العلماني :
"هل الحاكم المسلم في الدولة الإسلامية ملزم بقبول قوانين من دين الإسلام بحيث لا يسعه إلا اتباعها
فيجيب العلماء المذكورون :
" نعم .. ولا بد " !
فيجيب العلماني :
" فلم تعد دولة الإسلام دولة مدنية لافتقادها ركنا أساسيا من أركان الدولة المدنية ، وإن بقيت فيها أركان أخرى"

فحقيقة الأمر : أن دولة الإسلام دولة مدنية بمفهوم جديد : إذا فسرنا مفهوم الدولة المدنية بهذه العبارات الشارحة التي يذكرها هؤلاء العلماء ! ويكون مصطلح الدولة المدنية بهذا التفسير الإسلامي لهم : مصطلحا جديدا خاصا بأولئك العلماء وبالإسلام ! ولا يتوارد هو والمصطلح الفلسفي محل مطالبة العلماني على محل واحد بتمامه ، وبالتالي : تظل مطالبة العلماني بدولة مدنية بالمعنى الفلسفي قائمة : لا يدفعها وجود بعض مفاهيم الدولة المدنية بالمعنى الفلسفي في الإسلام ؛ لمكان فوات ركن آخر مؤثر.

فإذا تقرر ما تقدم ؛ فإن هذه العبارة التي كثر تردادها :
" دولة مدنية : مرجعها الإسلام " :

هي كقول القائل "متحرك ميت" أو كقوله "ظالـم بإنصاف"!
فجميعها عبارات : تحمل التناقض في طياتها ، ولا يمكن قبولها إلا كما قلنا : بتفسير آخر إسلامي للدولة المدنية : يحيل المصطلح إلى صورة أخرى ليست هي محل النزاع أصلا بين أولئك العلماء والعلمانيين ونحوهم ، فالعلماني : قد يسلم بما في الإسلام من آليات مدنية وانتفاء للكهنوت ، لكنه سيظل مطالبا بالركن المدني الرئيسي وهو أنه:
لا مرجعية مطلقة ملزمة تفوق سلطتها النظام الحاكم بسلطاته .

سؤال  : 
ألا يمكن أن يقال إن عبارة «ذات مرجعية إسلامية» بنفس منزلة استثناء «هوبز»، و«اسبينوزا» ، وتقريرهم إمكانية كون النص المقدس قابل لأن يتحول لقانون مدني إذا اختاره الحاكم ، فتكون الفجوة قد انتهت بين المصطلح في حالته الفلسفية ، وبين المصطلح كما يستعمله فقهاء الإسلام السياسي ؟

الجواب :
لا يمكن ذلك ، ولا تنفع هذه العبارة في تعويض هذه الفجوة ؛ لأن المرجعية الإسلامية عند الفقهاء المذكورين ملزمة للحاكم في مناطق الإلزام المعروفة في الشرع ، أما اختيار الحاكم للنصوص والأحكام الدينية عند «هوبز» ، و«اسبينوزا» فهو اختياري للحاكم يسعه أن يفعله وله ألا يفعله، وهو حين يفعله لا يتعامل مع النص المقدس على أنه مرجعية بل على أنه مجرد رأي عقلي رأى الحاكم في الأخذ به مصلحة سياسية .

الدائرة 3)) :

ما هو حكم التعبير عن الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية؟

الجواب :
يختلف هذا الحكم باختلاف حالتي الاختيار ، والحاجة ، والاضطرار ، ونبدأ بتقرير حكم حالة الاختيار التي يكون فيها المجتهد في سعة من العبارة ، وليس في مقام دفع شبهة ، أو في معترك سياسي يضيق فيه باب الحلال المحض ..

حالة الاختيار

إذا تقرر ما بيناه من الخلل في الدائرة 1)) ؛ فإنه لا يجوز شرعا القول بأن دولة الإسلام دولة مدنية ، وذلك للأسباب التالية :
 

1-
دولة الإسلام مبنية على ركن ديني لا يمكن إسقاطه وهو وجود المرجعية المطلقة الملزمة للحاكم والأمة وجميع السلطات المدنية وهي الوحي ، وبالتالي فهي تفارق في موضع مؤثر أصيل مصطلح الدولة المدنية كما هي دلالته في لسان واضعيه وأكثر المتكلمين به .

2-
مصطلح الدولة المدنية ليس مصطلحا محايدا ، بل هو مصطلح مؤسس على مفاهيم معينة إذا صح انتزاع بعضها منه كاصطلاح خاص ؛ لـم تجز مخاطبة الناس به مخاطبة عامة؛ لوجود الالتباس الشديد ، خاصة وأن التركيب والتقييد في معنى فلسفي دقيق ليس مما يطيقه عامة الناس ، بل وبعض طبقات المثقفين = التخلص من حالات الالتباس المقارنة له ، مما يرجح كفة المنع في حالة الاختيار من استعمال المصطلح والمنع ثابت حتى لو كان مقيدا بما يوضح دلالته المخصوصة عند المتكلم ؛إذ الواقع شاهد بوجود الالتباس وجودا مؤثرا حتى مع التقييد .
 
3-
الأصل في المعاني الشرعية هو استعمال لسان الشرع في التعبير عنها ، وعدم الخروج عنه إلا عند الحاجة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
 "والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن ، أولى من التعبير عنها بغيرها ؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها ، وهي تنزيل من حكيم حميد ، والأمة متفقة عليها ، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم ، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه ، والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع .
ثم قد يجعل اللفظ حجة بمجرده ، وليس هو قول الرسول الصادق المصدوق ، وقد يضطرب في معناه ، وهذا أمر يعرفه من جربه من كلام الناس .
فالاعتصام بحبل الله يكون بالاعتصام بالقرآن والإسلام .. ومتى ذكرت ألفاظ القرآن والحديث ، وبين معناها بيانا شافيا ، فإنها تنتظم جميع ما يقوله الناس من المعاني الصحيحة ، وفيها زيادات عظيمة لا توجد في كلام الناس ، وهي محفوظة مما دخل في كلام الناس من الباطل" 
[النبوات : 2/878]

ويقول أيضا رحمه الله:
"الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين ، مثل لفظ «الجسم» ، و«الجوهر» ، و«المتحيز» ، و«الجهة» ونحو ذلك ، فلا تطلق نفيا ولا إثباتا ، حتى ينظر في مقصود قائلها ، فإن كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحا موافقا لـما أخبر به الرسول، صوب المعنى الذي قصده بلفظه ، ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص ، لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة ، مع قرائن تبين المراد بها ، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ، وأما إن أريد بها معنى باطل ، نفي ذلك المعنى ، وإن جمع بين حق وباطل ، أثبت الحق وأبطل الباطل"
[منهاج السنة : 2/554]

4-
استعمال هذا المصطلح في حالة الاختيار وشرحه وتفسيره بالألفاظ الشرعية يجعل هذا المصطلح هو الأصل ، والألفاظ الشرعية تابعة له ، وهذه طريقة فاسدة ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"إن معرفة ما جاء به الرسول ، وما أراده بألفاظ القرآن والحديث ، هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة ، ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب لينظر المعاني الموافقة للرسول والمعاني المخالفة لها .
والألفاظ نوعان : 
نوع يوجد في كلام الله ورسوله .. ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف المعنى الأول ، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل ، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني ، ويرد إلى الأول ، هذا طريق أهل الهدى والسنة ، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس ، ويجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل ، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لهم"
 
وأختم في تأييد المنع بأن أستدل بكلام الأستاذ فهمي هويدي عندما أنكر على الشيخ المودودي استعماله للفظ (الثيو قراطية) كوصف للدولة الإسلامية فيقول الأستاذ فهمي:
"وأخيرا فإن الأستاذ المودودي وقع في «فخ» استخدام مصطلحات غريبة , محملة بخلفيات التجربة الغربية , التي قد تضر كثيرا إذا وضعت في سياق إسلامي ، وهو ما يحمل الإسلام بالخلفيات، بغير مبرر"

أقول : 
وهذا هو عين ما نقوله في حكم استعمال لفظ (الدولة المدنية)

سؤال :
هل يجوز إطلاق القول بأن دعاة الدولة المدنية علمانيون ؟!

الجواب  : 
لا ، لا يجوز هذا حتى يستفسر من قائله عن مراده ، فمن أراد المعنى الفلسفي العلماني ؛ استحق الاسم المذكور ، ومن أراد ضد العسكرية ، أو ضد البدائية المتخلفة ، أو ضد الدينية على المعنى الذي شرحه العلماء السابقون ؛ فلا يستحق هذا الاسم أبدا .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"فالـمعاني الثابتة بالكتاب والسنة ؛ يجب إثباتها ، والـمعاني الـمنفية بالكتاب والسنة ؛ يجب نفيها ، والعبارة الدالة على الـمعاني نفيا وإثباتا إن وجدت في كلام الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجب إقرارها ، وإن وجدت في كلام أحد ، وظهر مراده من ذلك ؛ رتب عليه حكمه ، وإلا رجع فيه إليه ، وقد يكون في كلام الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبارة لها معنى صحيح ، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهذا يرد عليه فهمه"
[مجموع الفتاوى : 1/110]

حالة الاضطرار

وهي حين يضيق مجال العبارة على المجتهد ، إما لكونه في مقام رد شبهة ، أو لوجوده في معترك سياسي يضيق فيه باب الحلال المحض ، ويضطر فيه لاستعمال شيء مما لا يجوز استعماله في حالة الاختيار لغلبة المصلحة المرجوة من وراء استعماله ،ولصعوبة استخدام مصطلح وسيط،ولحاجته لاستخدام مصطلح شائع لنفي شبهة تعيق الخطوات الأولى للدولة الإسلامية.

فحين يكون المجتهد في مقام رد شبهة من يتهم الإسلام بأنه دولة دينية «ثيوقراطية» ، أو في مقام الرد على من يطالب بدولة مدنية ، ويجعل الإسلام ضدا لها ، أو في معترك سياسي يقوم فيه أولى الطائفتين بالحق بمحاولة جذب الجماهير عن طريق دفع الدعاية المشوهة للإسلام ، فيستعمل هذا المصطلح ؛ فإنا نرى جواز فعل ذلك إذا غلبت مصلحته ، ودعت الحاجة إليه وفق تقدير المجتهد مع الحفاظ ما أمكن على قيد المرجعية الإسلامية ، والزيادة عليه بما يفيد الإلزام ، فيقال : «لا مانع من دولة مدنية مرجعيتها الملزمة هي الإسلام».

ويقول شيخ الإسلام مقرا :
"ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى الله بها ، وبين ما يخبر به عنه للحاجة فهو ـ سبحانه ـ إنما يدعى بالأسماء الحسنى ، كما قال : "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها[الأعراف : 180] ، وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال : «ليس هو بقديم ، ولا موجود ، ولا ذات قائمة بنفسها» ، ونحو ذلك ، فقيل في تحقيق الإثبات: «بل هو ـ سبحانه ـ قديم ، موجود ، وهو ذات قائمة بنفسها» ، وقيل : «ليس بشيء» ، فقيل : «بل هو شيء» ؛ فهذا سائغ"
[الفتاوى : 9/30]

أما استعمال المصطلح مجردا عن القيد ، فلا نرى جوازه إلا في رتب أعلى من الاضطرار ، وحيث يؤمَن التلبيس على عامة الناس،أو توجد مصلحة عظيمة تغلب مفسدة التلبيس مع السعي في كشف التلبيس بطروحات منفصلة ، ويكون ذلك من جنس المعاريض التي يدفع بها الضرر والظلم ، أو يرجى منها مصلحة عظيمة يغلب على الظن تحققها،خاصة مع احتياج المجتهد لتفادي الضغوط المضرة على الخطوات الأولى في السعي لبناء الدولة الإسلامية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"الـمعاريض ، وهي : أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ، ويتوهم غيره أنه قصد به معنى آخر , ويكون سبب ذلك التوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين ، أو عرفيتين , أو شرعيتين , أو لغوية مع أحدهما , أو عرفية مع شرعية ، فيعني أحد معنييه ويتوهم السامع أنه إنما عنى الآخر ؛ لكون دلالة الحال تقتضيه , أو لكونه لـم يعرف إلا ذلك الـمعنى , أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا فيه معنى ؛ فيعني به معنى يحتمله باطنا فيه بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته , أو ينوي بالعام الخاص ، أو بالـمطلق الـمقيد , أو يكون سبب التوهم كون الـمخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته بعرف خاص له , أو غفلة منه , أو جهل منه ، أو غير ذلك من الأسباب مع كون الـمتكلم إنما قصد حقيقته , فهذا ـ إذا كان الـمقصود به دفع ضرر غير مستحق ـ جائز ..

وقد يكون واجبا إذا كان دفع ذلك الضرر واجبا ، ولا يندفع إلا بذلك ، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك , وهذا الضرب نوع من الحيل في الخطاب , لكنه يفارق الحيل الـمحرمة من الوجه الـمحتال عليه ، والوجه الـمحتال به ؛ أما الـمحتال عليه هنا ، فهو دفع ضرر غير ضرر مستحق , فإن الجبار كان يريد أخذ امرأة إبراهيم وقتله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  لو علم أنها امرأته , وهذا معصية عظيمة ، وهو من أعظم الضرر , وكذلك بقاء الكفار غالبين على الأرض , أو غلبتهم للمسلمين من أعظم الفساد ، فلو علم أولئك الـمستجيرون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لترتب على علمهم شر طويل , وكذلك عامة الـمعاريض التي يجوز الاحتجاج بها ؛ فإن عامتها إنما جاءت حذرا من تولد شر عظيم على الأخبار ، فأما إن قصد بها كتمان ما يجب من شهادة , أو إقرار , أو علم , أو صفة مبيع أو منكوحة , أو مستأجر , أو نحو ذلك ؛ فإنه كل ما حرم بيانه ؛ فالتعريض فيه جائز ، بل واجب إن اضطر إلى الخطاب ، وأمكن التعريض فيه ـ كالتعريض لسائل عن معصوم يريد قتله ـ , وإن كان بيانه جائزا ، أو كتمانه جائزا , وكانت الـمصلحة الدينية في كتمانه ، كالوجه الذي يراد عزوه ، فالتعريض أيضا مستحب هنا , وإن كانت الـمصلحة الدنيوية في كتمانه , فإن كان عليه ضرر في الإظهار ـ والتقدير : أنه مظلوم بذلك الضرر ـ جاز له التعريض في اليمين وغيرها...

وفي الجملة ، فالتعريض مضمونه أنه قال قولا فهم منه السامع خلاف ما عناه القائل ، إما لتقصير السامع في معرفة دلالة اللفظ , أو لتبعيد الـمتكلم وجه البيان , وهذا غايته أنه سبب في تجهيل الـمستمع باعتقاد غير مطابق , وتجهيل الـمستمع بالشيء إذا كان مصلحة له كان عمل خير معه , فإن من كان علمه بالشيء يحمله على أن يعصي الله ـ سبحانه ـ كان أن لا يعلمه خيرا له , ولا يضره مع ذلك أن يتوهمه بخلاف ما هو إذا لـم يكن ذلك أمرا يطلب معرفته , إن لـم يكن مصلحة له ، بل مصلحة للقائل ، كان أيضا جائزا , لأن علم السامع إذا فوت مصلحة على القائل كان له أن يسعى في عدم علمه , وإن أفضى إلى اعتقاد غير مطابق في شيء سواء عرفه , أو لـم يعرفه , فالـمقصود بالـمعاريض فعل واجب , أو مستحب أو مباح أباح الشارع السعي في حصوله , ونصب سببا يفضي إليه أصلا وقصدا , فإن الضرر قد يشرع للإنسان أن يقصد دفعه , ويتسبب في ذلك , ولـم يتضمن الشرع النهي عن دفع الضرر"

تنبيه : في أحوالنا في مصر الآن مثلا بعد الثورة واطلاع الناس للحكم: لابد من مراعاة الدقة التامة، ولا بد من عدم إطلاق لفظ الدولة الإسلامية المدنية إثباتا لها أو نفيا بغير تبيان : فكله معيب (إلا اضطرارا)، وليس قول القائل الإسلام يدعو للدولة المدنية بأقل خطرا من نفي المتكلم صفة المدنية عن الإسلام أو جعله الإسلام في مقابلها.

 
9...
أربع ملحوظات أخيرة ...
فيها تصرف في العنوانين وبعض الزيادات مني (أبو حب الله) على كلام الأخ أبي فهر السلفي جزاه الله خيرا...

1))
مصر الآن والتلاعب بإرادة أغلبية الشعب المسلم...


إذا كان نص فلاسفة الدولة المدنية كتوماس هوبز حين يقول:
"إن الكتاب المقدس لا يصبح قانونا إلا إذا جعلته السلطة المدنية الشرعية كذلك"

واسبينوزا حين يقول :
"إن الدين لا تكون له قوة القانون إلا بإرادة من له الحق في الحكم"


ثم نجد نفس الحقيقة يقررها أحد أشهر العلمانيين الحاليين في مصر ودعاة الدولة المدنية وهو المستشار سعيد العشماوي حين يقول :
"الحكومة المدنية أو نظام الحكم المدني هو النظام الذي تقيمه الجماعة،مستندا إلى قيمها،مرتكزا إلى إرادتها،مستمرا برغبتها،حتى ولو طبق أحكاما دينية أو قواعد شرعية"
[الخلافة الإسلامية : ص 18]
                                                                             
فهذه النصوص الثلاثة بينة جدا في أن الحاكم أو البرلمان أو حتى الشعب بالديمقراطية المباشرة إذا اختار أحكاما دينية وجعلها قوانين للحكم = أن ذلك لا يخرج الدولة عن وصف المدنية؛ لأن اختيار السلطة العليا لها هو الذي أكسبها صفة الإلزام، وهذه هي آليات الدولة المدنية،ورفض الأحكام الدينية التي اختارها الشعب أو البرلمان لمجرد أنها دينية سيكون حينئذ عدوانا على إرادة الشعب ومصادرة لها واستبداد لا يتفق وأبجديات المدنية.!!

ورغم أننا من ناحية الأصول الشرعية نرى أن الأحكام الشرعية ملزمة بنفسها لا تتوقف إلزاميتها على استفتاء أو اختيار من أحد = إلا أننا نتنزل معكم لنلزمكم بأبسط أبجديات الدولة المدنية التي تؤمنون بها فنقول :
خلوا بين الشعب واختياره،ولا تصادروا إرادته،وليطرح كل بضاعته ،وما تختاره الأمة = لا يسعكم إلا التسليم به ؛لأن هذه هي الآليات التي تؤمنون بها.
وإن أبيتم فالسؤال قائم هو : بأي حق إذا تمارسون المدنية والحرية بهذه الانتقائية العجيبة وذلك التحيز غير الموضوعي؟!!

ونفس اللعبة في مصر الآن لتهميش اختيار الشعب  للدين بالأغلبية: هي التي تم لعبها على الجزائر من قبل في تسعينات القرن الماضي!

يقول الأخ عصام البشير من المغرب وهو يصف فضائح وتناقضات تطبيق الدولة المدنية في أوروبا وعدائها الصارخ لمظاهر الإسلام وآخرها النقاب في فرنسا (في حين يُمنع منعا باتا المساس باليهود وسيرتهم: وهو مشرف منتدى اللغة العربية بموقع ملتقى أهل الحديث على النت:

"ولذلك فلسان حال الغربيين اليوم باختصار شديد: (نقبل اختيار الشعب ما لم يعد على أصل الديمقراطية بالإبطال. فاختيار الشعب بمحض إرادته ''الدولةَ الدينية'' غير مقبول، لأنه كاختيار الألمان في عشر الثلاثين ''الحزبَ النازي''، ففي كلتا الحالتين لا نقبل أن يختار الشعب ما يناقض استمرار فكرة الخيار للشعب).

ولذلك كان أحد الفرنسيين (وهو ممثل لجمعية حقوقية!) في نقاشه معي يقول ما معناه: (الشعب الجزائري لم يصل إلى درجة الوعي الكافية التي تؤهله لأن يحسن الاختيار، فعلينا أن ننقذه من آثار هذا الغلط الذي ارتكبه)!.

وأقول أنا (أبو حب الله) : سبحان الله العظيم : هذه العبارة الأخيرة : هي نفس ما قاله العلمانيون والليبراليون في مصر بعد أن رفض الشعب بالاقتراع والأغلبية : تجديد الدستور للتلاعب في المرجعية الإسلامية للدستور المصري !.. فدفع ذلك فرسان الدولة المدنية الآن (لفرض) مواد (فوق دستورية) تطيح بإرادة الشعب وتضرب بها عرض الحائط: فقط: لأن الشعب (والذي امتدحوا عقله ونضجه حين قام بالثورة) : قد صار الآن لا يعرف مصلحته حينما اختار المرجعية الإسلامية للدولة!

2))
تم توجيه سؤالين في ملتقى أهل الحديث للأخ أبي فهر حفظه الله فأحببت النقل للإفادة...

السؤال الأول :
ما هو تفسير إقرار الفقهاء والعلماء لولاية وحكم المتغلب في الإسلام: والذي وصل إلى الحكم بالقوة: رغم أنها قامت رغما عن الشعب المسلم؟

الجواب :
إمضاء ولاية المتغلب إنما هو حال ضرورة؛ لحقن دماء المسلمين ولحفظ البلاد من الفساد،وليس لأنه تولى الولاية بطريق صحيح،وقد نص على هذه العلة الحافظ ابن حجر في الفتح (13/7).
ولذلك كانت عبارة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دقيقة حين قال : أن له حكم الإمام.فإن الإمامة المرضية لا تكون إلا برضى الناس،ولا يكاد يكون المتغلب مستجمعاً لشروط الإمامة،ولذلك جعله النووي رغم انعقاد إمامته : عاصياً بفعله.

السؤال الثاني :
كيف يصح الجمع بين من يقول أن الإمامة الصحيحة في الإسلام تكون برضى الشعب: وبين حالة دخول الإسلام فاتحا لبلد من البلاد رغما عن أهلها؟

الجواب :
البلدان المفتوحة إما أن تفتح صلحاً وهذا رضى من أهلها بحكومة الفاتحين،وإما أن تفتح عنوة وقد أسقط الله بالكفر حقهم في اختيار إمامهم فإن الإسلام يعلو،ومن أسلم منهم= فإنه تابع لعامة المسلمين فيما اختاروه إلا أن تحل ولاية جديدة فيرى رأيه.

3))
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في رده على الشيخ خالد محمد خالد، تحت عنوان (شبهات حول الحكم الديني):

"يقع في الوهم أن الحكم الديني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.
وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلةومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرةوحسبهم ذلك من الظفر بالحكم

وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائنفنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدين)وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلقة بالكتاب والسنة، ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعرفة المادية وغير الماديةوالعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهي مرشحا للحكم في أزهى عصور الإسلام

وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة، ومن أكثرهم تحديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة سعد بن أبي وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بن الجراح؟ الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم أو ذلك ما يجب أن يكونوالذي يخدم دينه في ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينه لا غبار عليهوليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف، ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ماوالصورة الصادقة للحكومة - كما يقيمها الإسلام - صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنون أشخاصهم ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم

صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوبصورة أفراد لهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة، وابن الوليد في القيادة، وابن الخطاب في الحكم؛ قد يولدون في أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم وملكاتهم في مناحي الدنيا وميادين العملإن الحكم الديني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ... ويوم يكون كذلك فالإسلام منه بريء"
[من هنا نعلم : ص 27]

ويقول سيد قطب رحمه الله في [المعالم : ص 60] : 

"ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة"

4))
وأما طريقة الشيخ أبي الأعلى المودودي المشار إليها باختصار بالأعلى: فهي عكس طريقة الفقهاء المذكورين! فهم قد جعلوا الحكومة الإسلامية مدنية بقيد، وأما هو فقد جعلها دينية ثيوقراطية بقيد! فيقول رحمه الله: 

"الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافا كليا، فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند أنفسهم حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله.

ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة (الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) لهذا الطراز من نظم الحكم، لأنه قد خول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من منصبها، وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح، لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع، لا يقوم ببيانه طبقة أو أسرة مخصوصة فحسب، بل يتولى شرحه وبيانه كل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين ،فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي (ديمقراطيا)"
[نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور ص34-36]
  

الزوار