السبت، 1 أكتوبر 2011

نحو تنوير النحو !

بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..



فرغ أبو الإلحاد من مقاله الأسبوعي, رفع فيه مذهبه وخفض مخالفه, وذكر امتعاضه المتفاقم من تعاظم أمواج الفكر الجامد, وحذر من الأخطار المحدقة بالمجتمع المدني, وبين أنها بدأت تنحت في صبر : حروف اليقين الديني في بيئة نشأت على الشك المنهجي, وأنها بدأت تصبغ حياة الناس بصبغة البداوة وبألوان ما قبل الحداثة الباهتة. تنهد حسرة على تغير الأحوال. وتعجب من انقلاب الموازين. ثم نشر مقاله في مدونته الكالحة فما لبث أن جاءه تعليق. اعتدل في جلسته فرحا يترقب وبدأ يقرأ:

"عزيزي أبا الإلحاد, بغض النظر عن مضمون أفكارك إلا أنني بصفتي أستاذا للعربية أخبرك أن قراءة مقالتك اصابتني بالصداع النصفي. إن كلماتك تئن تحت ركام من اللحن والركاكة. خذها مني نصيحة مشفق: لا تنشر بعد شيئا قبل أن المراجعة اللغوية الدقيقة. تحياتي, (فارس الضاد).

شعر بالحنق لأن التعليق لم يلق بالا لا إلى تحليله العميق للتحولات التي تكاد تعصف بمكتسبات الحداثة, ولا إلى رؤاه التقدمية الثاقبة التي تعيد الأمل إلى النخبة المتنورة. قال كأنه يحدث نفسه:
"لا بد أن هذا المعلق المغرور منهم, لا أكاد أشك في ذلك, فليمت هو ونحوه غيظا. لا يلتفتون إلا إلى القشور. متى يدركون حقائق الأشياء؟"

جلس يفكر في علاقة اللغة العربية بتنامي الفكر الديني, فعنّت له فكرة سرعان ما استهوته واستحوذت على فكره: لم لا يكون هذا موضوع مقالته التالية: (نحو تنوير النحو)؟ غضب لتذكر التعليق الوقح وتسارعت أنفاسه وغاظه تقريعه على خطئه المتكرر في كتابة الهمزة, فوق السطر أو فوق الألف أو فوق الياء, فلتكن فوق السقف فما الذي يتغير؟ يا لهم من متنطعين! فتح مذكرته ليدون أولى أفكاره, لتكون لبنات لمقالته القادمة.

كتب رؤوس أقلام: "الإلحاد منهج حياة... اللغة رداء الفكر... علوم العربية نشأت تحت قهر الفكر الديني... لا بد من مراجعة الإرث اللغوي في ضوء مذهب التنوير... النحو يرزح تحت ركام القرون المتطاولة... النحو وُضع لتكريس هيمنة الخطاب الديني المنغلق..."
تأمل جملته هاته فانتبه لهذه العبارة الغريبة: "النحو وُضع..." حك جبهته بقلمه وفغر فاه متفكرا: من وضعه؟ لماذا نقبل مثل هذا الاسلوب الغامض؟ لماذا ننساق وراء هذا التلبيس؟ ومن أدرانا أن أحدهم وضعه؟ كل ما هنالك أنه هنا كالسيف مصلتا في وجه التحرر والانعتاق الفكري. تأمل تدفق أفكاره وابتسم فبدت أسنان علاها القلح. "وجدتها, وجدتها." لقد عثر لتوه على قلب مقالته الوليدة. شرع يبحث عن الشرايين والأوردة ليضخ إليه بنات أفكاره المتنورة. بدأ يتتبع خيوط فكرته لينسج منها هيكلا لمقالته. النحو الذي يشنع به عليه مخالفوه مرة تلو أخرى : ليس منزها عن النقد. وكيف يكون كذلك؟ إذا كان لا يتورع عن الطعن في القرآن, فكيف يقبل بالنحو دون نقده وتمحيصه ؟ استغرب أنه لم ير الأمر على هذا النحو من قبل. كان يكتب ويجتهد أن يوافق ما قيل له إنه يوافق النحو, وكان يضحي من أجل ذلك بكثير من العبارات المتألقة خيفة اللحن والخطأ في اللغة العربية. لا شك أن كثيرا من أفكاره التنويرية العبقرية قد ضاع بسبب الحرص الزائد على اتباع هذا النحو العتيق. ثم هاهي ذي تأملاته تفضي به إلى هذا الكشف العلمي الفريد. هاهو يخرج مناقيشه ليستل هذا الأسلوب اللغوي المتدنس بأوحال الميتافيزيقا.

(المبني للمجهول) انظر كيف يسمونه, إنهم لا يريدون لنا أن نقبل بالجهالة فحسب, بل يريدوننا أن نبني عليها.! كم يستخفنا هؤلاء. لكن لن نقبل بتدليسهم بعد اليوم. لا بد من تطبيق الإلحاد على العلوم. فلأبدأ بالعربية. وليكن النحو بداية رحلة الألف فن. قد أموت قبل أن أفلح في تحرير العربية من شوائب الميتافيزيقا ومن رواسب الخرافة. لكن حسبي أن أكون شمعة تضيء لتنير للزملاء المتنورين الطريق. سأنتهي حتما سمادا يغذو الأرض فتنبت حشائش تأكلها البغال والحمير, أو أصير وقودا يدير عجلة الإقتصاد المادي في مجتمع متنور, لكني سأخفف من وطأة الجهل والتزمت بفتوحاتي العلمية, فإن مذهب الظلام لن يدوم طويلا. أنا أوقن يقينا ماديا أن التنوير سينتصر في النهاية.

لكن كيف أستطيع أن أزيح (المبني للمجهول) عن ساحة النحو ريثما أزحزح النحو برمته عن عرشه؟ بحث قليلا فوجد أن أهل العربية يدعونه أيضا: (ما لم يسم فاعله), تريث قليلا. وقارن الاسمين, ثم حرك رأسه في استغراب وهو يقول: "لا ينقضي عجبي من تدليس القوم: مبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله. هذا تدليس بين. إنه استدلال بموطن النزاع. النزاع ليس على جهالة الفاعل, بل على وجوده من عدمه. فلا فرق إذن بين قولهم عن الفاعل أنه مجهول, وقولهم إنه لم يسم" ثم إنه دسوا تدليسهم في التعريف عينه, (لم يُسم) كم يغيظه هذا التعبير. حاول أن يبني جسرا يجمع بين شتات أفكاره فتأمل في أصل مقالة الإلحاد التي يعتز بها ويكررها في نفسه كلما تسربت إليه وساوس الإيمان وكلما قذفته الشبكة الإلكترونية بشبهات الإسلام. حينها يكرر ما غدا مثل الشهادتين في ملته: (لا إله والكون مادة, والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم.) نظر إلى معاني التنوير في الأصل الأعظم لملته, فلم يبصر إلا ظلاما دامسا, لا بد أنه مرهق بسبب الجهد الذي بذله.

تفكر في أنه إنما ينكر الخالق لأنه لم يره قط. وينكر الخلق لأنه لم يشهده, فخطر له أن هذا سر ابتداع المتدينين لصيغة (المبني للمجهول) إنهم أسسوا لفكرهم الديني من داخل النحو. اعترف في نفسه بعبقرية النحاة من هذا الوجه. تملكه الإعجاب بروحه العلمية وبإقراره بمكر الخصم وفضله. حاول أن يطبق مبادئ ما تحصل له حتى الساعة من ثمرات مشروعه في تنقية النحو من شوائبه الدينية, فكتب: "لو تركنا هذا الأسلوب الظلامي يعيث الفساد داخل اللغة, فإننا سنرتد مؤمنين يوما ما. كيف؟ إليكم الجواب:

تنشأ في بيئة التقليد على المعتقد الموروث, فتتوهم معانقة الحقيقة وامتلاك اليقين, ثم تهب عليك نسائم التنوير فترتاب وتشك. ثم تنسلخ من الإيمان شيئا فشيئا حتى تبلغ مبلغي من الإلحاد وتجرب تجربتي فيه فتحس بمعنى الحرية من كل دين وخلق, فتقول:
"أنا لم أر لا الخلق ولا الخالق, إذن النتيجة المنطقية التي يمليها عليك التنوير المادي الذي يكفر بكل ما غاب عن الحس: (لا خلق ولا خالق) ومن جادلك فقل له هات برهانا علميا واحدا على دعواك. حينها تكون قد قطعت أشواطا من رحلة التنوير تكل عنها أبصار المتدينين, وتكون قد ذقت مذاق الإلحاد الذي لا يدركه الوصف, إنما يعرفه من ذاقه, ومن ذاق فقد عرف. لكن انتبه, إذا كنت ممن يصدقون بن آجروم وبن مالك وأضرابهما, فإنك توشك أن ترتد على عقبيك, خصوصا إذا بلغت إلى باب [باب المفعول الذي لم يسم فاعله: وهو الاسم المرفوع الذي لم يُذكر معه فاعله، فاِن كان الفعل ماضيا ضُمَّ أوله وكُسر ما قبل آخره، واِن كان مضارعا ضُمَّ أوله وفُتِحَ ما قبل آخره.] قرأ هذه الفقرة من الآجرومية ثم تساءل: كيف ندع أمثال هؤلاء يستخفوننا بالنحو على هذا النحو؟ انظر كيف يقول: يُذكر... ضُمَّ... فُتح... لو غفلت عن الخطر الذي أتخوفه عليك فإنك ستقول يوما ما في لحظة ضعف:"
لحظة بدء الحياة في هذا الكون مجهولة والذي جرى في الأزل كله مجهول, إذن تطبيقا لمبادئ النحو قد نقول تجوزا: "ابتدئ الكون... أو أنشئ الكون... أو خُلق الكون..." طبعا سيستعمل الملحد المتنور ذلك كله من باب المجاز. استطرد في أفكاره: "المجاز يصلح ليكون حلقة أخرى من سلسلة تنوير العلوم" انتهى الاستطراد. ثم يرتفع الملحد على هذا النحو درجة درجة ليبلغ سقف الوهم الذي نصبه له النحاة في مكر, فيقول:
"حسنا: خُلق الكون. هذا مبني للمجهول ولم يسم فاعله, إذن أنا أقر من ناحية لغوية نحوية بحتة بالجهل بالخالق, كما أقر -دائما من داخل النحو- بوجوده. فلا يبقى بعد إلا أن يتعرض من مر بهذه المراحل أو بعضها إلى هزة عاطفية كأن يموت له قريب, أو يجتاز محنة نفسية فتغلبه رواسب التدين الموروث فينتكس مرة أخرى إلى التفكير الجدي في ارتداء ثياب الإيمان, وهكذا تكتمل خيوط الفخ المحكم الذي نصبه النحاة لمن لم يؤت فهما ثاقبا كفهمي, ولم يعرف مثل معرفتي, فتتحقق على أيدي أولئك الخصوم الأفذاذ نهاية جهود التنوير.

ستسألونني حتما: "وكيف نخرج من هذا الإشكال؟" فأقول ,أنا أبو الإلحاد: "لا يجبرنا شيء أن نؤمن بالمحال ولا أن نتعلق بالأوهام. لذا أقترح من يوم المتنورين هذا, أن نعدل عن هذا الأسلوب المحفوف بالأخطار الميتافيزيقية والمتلبس بالعقائد الغيبية إلى أسلوب متحرر من ذلك كله, فنسمي ما لم نشهد له فاعلا: (المنفعل) فنستعمل مثلا: بدل "بُني": "انبنى" وبدل "فُعل": "انفعل" وبدل "ضُمّ": "انضمَّ" وهكذا... فلا نقول: "ضُرب زيد" بل نقول: "انضرب زيد" ولا نقول: "قيست المسافة." بل: "انقاست." ولا نقول: "طُرح في سلة المهملات" بل نقول: "انطرح فيها" وهكذا دواليك حتى نؤسس لصيغة (المنفعل) التي ستزيح البساط من تحت أقدام النحاة ومبنيهم للمجهول. ولو أخذنا مثالا من درس التاريخ, فلا ينبغي أبدا أن نقول "بنيت صخور (ستون هنج) في إنجلترا." بل نقول إنها: "انبنت." ولو شنع علينا متدين واعترض باستحالة هذا المعنى, فنجيبه بإمكانية تضافر عوامل مادية طبيعية متعددة عبر بلايين السنين ونؤيد نظرياتنا المتعددة حول الموضوع بحساب احتمالات الصدفة الدقيقة حيث الأرقام الفلكية التي لا تفصل أصفارها عن يمين وشمال إلا فاصلة. نعم إنها مقادير أخف من هباء وأوهى من هواء, لكن الإيمان بها يجعل الإيمان بالغيب بلا فائدة. لا تهم الوسائل, المهم هو نسف العقائد الغيبية التي استوطنت بنيان النحو العربي." حينها دخلت أم الإلحاد الغرفة وسألت بعلها: "عزيزي لحّود, أريد أن أكتب رسالة تهنئة لحليمة بمناسبة نجاح ابنها, فماذا يقال في هذه المناسبة؟" أغلق مذكرته ونظر إليها وهمّ بالجواب, ثم تريث لحظة وقال: "ينقال: ألف ألف مبروك." نظرت إليه في استغراب ثم انصرفت دون أن تنطق بكلمة.

الزوار