تطهير العلم من الإيمان !
بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..
دخل أبو الإلحاد إلى مدونة أبي سليمان يتصفح آخر مقالاته, لكن شيئا ما أسفل الصفحة استوقفه. نظر إلى التوقيع مليا فأعياه فهم معناه: (من افترض اقترض...) تأمل الكلمات ونقط الحذف. تملكه الفضول. هل هي مجرد زخرفة لفظية تتراقص فيها الحروف المتشابهة؟ لا أظن فالكاتب من عتاة الموحدين لا ريب, لكنه نبيه لبيب. أخفى وجهه بين كفيه وردد الكلمات مرارا (من افترض اقترض...) كأنه يستجدي تفسيرا ما, أي تفسير. إنه ملحد لكنه محب للعلم واسع الفضول, لذا يتسلل بين الفينة والأخرى إلى هذا المكان ليقتنص بعض الفوائد التي قلما يجد لها نظيرا في منتديات (الجرب والجذام).
طالما تنبه بفضل مقالات أبي سليمان إلى إشكالات عميقة تستحث فكره ونظره, وإن كانت تكاد تعصف بملته الإلحادية. فكان يذهب بها لحسن حظه –فيما يحسب- إلى زملائه فيطرحها عليهم متندرا ويقول: "انظروا بم يرمينا الظلاميون!". فينهال عليه سيل من الشتائم المقذعة تعلوها ردود كأنها زبد, فكان يلتقط تلك الردود المتناثرة فوق ركام الكلام البذيء يتبلغ بها ليخفف حدة الإشكالات في عقله وليرمم شيئا من بنيان دينه الخرب, فيقنع بذلك مستبشرا مسرورا ويؤجل محو تلك الشبهات من رأسه إلى حين. كان يصبر على الهزيمة على مضض, ويمني نفسه بيوم تعلو فيه راية الفكر المادي فوق الصوامع والمعابد. إنه يحيا على أمل ذلك اليوم الذي تسقط فيه حجج الموحدين جملة. يوم يأتيهم العلم بجواب كل سؤال يشهرونه اليوم في وجه حزب التنوير. ضبط نفسه مرة أخرى متلبسا بعين ما يرمي به خصومه. أليس تعليقه لأمله على الغد المجهول : إيمانا بالغيب؟ يذكر أنه قضى ليلة يفكر في حل هذا الإشكال الخطير, فخرج بمصطلح ضمنه عصارة جوابه عنه: (الغيب العلمي) يومها سطر رؤوس أقلام يراها فرقانا بين (الغيب الديني الأسطوري) و(الغيب العلمي التكنلوجي) وكان مما استشهد به على اصطلاحه الوليد أن (الغيب العلمي) يحمل في طياته إرهاصات الكشف عن عوالم فضائية تعج بمجتمعات ذكية من الكائنات المتطورة, ولا يستبعد أن تكون لتلك المخلوقات الخضراء ملكات خارقة قياسا إلى عالمنا, لكن هذا لا يقارن أبدا بما يقرره (الغيب الديني) من وجود مخلوقات ملائكية نورانية لا تأكل ولا تشرب, فشتان بين سكان المريخ وسكان السماء. أولئك عالم بدأ العلم يقفو آثاره ويكشف أستاره. وهؤلاء وهم ٌ: سيُعجل العلم اندثاره. والمريخ كوكب مادي أحمر قان, والسماء تعبير ديني أسطوري. وشتان بين غيب وغيب, إنما هو اشتراك لفظي بحت, فالقدر المشترك هو كلمة (غيب) والفارق تلخصه الهوة السحيقة التي تفصل (اللادين) عن (الدين).
تأمل كلمة "المخلوقات الخضراء" تساءل: من أين عرف أنها خضراء؟ حك خيشومه بظفر خنصره متفكرا. لم يجد جوابا, لكنه رجح أن للون تفسيرا ما في نظرية (الغيب العلمي). فجأة قفزت صورة إلى مخيلته: صورة مخلوق غريب قصير عظيم الرأس أصلع له جسم بين الإنسان والصرصار, يكاد ينوء بحمل تلك الرأس الضخمة, وله عينان كأنهما مصابيح نوع نفيس من السيارات الرياضية الإيطالية, نعم إنه أخضر اللون كأنه أحد أنواع الطحالب اليابانية التي تنتهي رحلتها على أطباق بيضاء في عناق أخير مع جاراتها من فواكه البحر ملفوفة بالأرز الأبيض: (سوشي). نعم, الآن تذكر من أين تسلل اللون الأخضر اليانع إلى تصوره للكائنات الفضائية التي اتخذها مثالا حيا لنظريته عن (الغيب العلمي) أم أنه (الخيال العلمي)؟ لا يهم, فليركز على مشكلته الراهنة الآن. لقد تذكر الآن منشأ الخضرة, لقد استورد الصورة برمتها من سلسلة رسوم متحركة يابانية. تذكر ذلك كله وهو يحملق في التوقيع المحير: (من افترض اقترض...)
هم بتجاهل الأمر حين حدثته نفسه: "لا بد أنك توشك أن تحرم نفسك فائدة. اسأل فلن تخسر شيئا. ثم إنها فرصة لتكتب تعليقا لاذعا حول هذا التوقيع الغريب دون أن تنجر إلى النقاشات الجوهرية التي يحفل بها المقال نفسه."
لم يتمالك نفسه فبدأ بالكتابة: "عزيزي أبا سليمان, كيف يكون توقيع أستاذ مثقف مثلك بهذه السطحية؟ لم أكن أحسب أنك مغرم بالسجع؟ أبو الإلحاد ".
لما عاد في المساء وجد الجواب التالي: "عزيزي أبا الإلحاد, شكرا على زيارتك, وعلى اهتمامك بتوقيعي: (من افترض اقترض...), إنه يتضمن إشكالا هادما للإلحاد بل للفكر المادي عامة, فالفكر البشري لا تقوم له قائمة إلا إذا انبنى على افتراضات ومسلمات غير قابلة للبرهنة. إنها أشبه بالحبل السري الذي نمده بين جهلنا وبين ما نسعى لمعرفته. إنها أفكار نؤمن بها ولن نستطيع أبدا أن نخضعها للتجربة. هل انتبهت يا عزيزي: "نؤمن بها"؟ فمن افترض من الملاحدة فقد اقترض, أي أنه اقترض من قاموس أهل الإيمان. إذن العلم يحتاج إلى إيمان والفكر يحتاج إلى إيمان والأغرب من هذا كله أن الإلحاد نفسه يحتاج إلى الإيمان أي أنه يحتاج إلى نقيضه. فهل يعني هذا أن الإلحاد مجرد رد فعل سلبي على فعل إيجابي محرك ومؤثر يدعى الإيمان؟ فالمفترض إذن مقترض والمقترض مفتقر إلى من يقترض منه. الاقتراض استعارة والمستعير لا يملك العارية. بل لصاحبها أن يستردها متى شاء. فتوقيعي يقول لبني الإلحاد: "ردوا ما استعرتم, انقضوا ما بنيتم, فبنيانكم مغشوش وليس خالصا. أزيحوا عنه أساسه الغيبي حتى تبنوا بنيانا ماديا صرفا." لا بد أن هذا كله يلزمكم فمن اقترض من أحد أصبح عليه عالة. مثلا يفترض الملحد أن الكون لم يزل ههنا وأن لا خالق له, فهذا الفرض إيمان ما عليه من برهان, فضلا عن أنه قرض من معسكر الإيمان, فيبدأ بنائه الإلحادي بهذه اللبنة المستعارة, فهو كمن يبني في الهواء. جرب أن تضع زملائك الأعزاء أمام هذا اللغز, صدقني لن يحيروا جوابا, أنْبَهُهُم سيقول: أنتم تؤمنون بالخرافات ابتداء, أما نحن فنتسلق في درجات العلم درجة درجة. والرد عليه ميسور: يا عزيزي ما شأنك بنا؟ هذا ديننا, الإشكال يتوجه إليك أنت يا من تنكر الإيمان ولا تؤمن إلا بالمادة المحسوسة, فأين المادة في افتراضات لا برهان عليها؟ أرأيت إن كانت خاطئة؟ منهجك إذن كله خاطئ تبعا لها. أما نحن فإيماننا ليس افتراضا. إذ أنا لم نقترضه من أحد. بل إن دليله وحي ثبت بالبرهان القاطع أنه كلام خالق البشر لهداية البشر. إذن بنياننا متين وأساسه أمتن. بنيان ديننا نقل معصوم صحيح شهد له عقل صريح مفهوم. فلا افتراض فيه ولا اقتراض. ولا شك فيه ولا اعتراض. ولا افتقار إلا لمن شهدت له الأفلاك والأملاك بالذل والافتقار. وبينانكم خواء وأساسه هواء. هل فهمت الآن يا عزيزي معنى قولي: من افترض اقترض ومن اقترض افتقر ؟ وختاما أضرب لك مثالا من هذه المحاورة اللطيفة بيننا التي سعدت بها كثيرا: أنت قرأت التوقيع فلبثت متحيرا تتساءل: "أي توقيع هذا؟", ثم اجتهدت أن تخرج من شرنقة الجهل بهذه الجزئية التافهة, فلم تجد لذلك سبيلا, فكنت بين أمرين: إما أن تبقى على جهلك وإما أن تسأل؟ فلم تقنع بأن تسأل بل أبيت إلا أن تتهكم, فوقعت في عين ما يرمز إليه التوقيع: لقد افترضت فاقترضت فافتقرت فنسفت حظيرة الإلحاد بافتراضك الخاطئ, فوقع طوبها وطينها وروثها على أم رأسك. لقد افترضت أن التوقيع توقيع حروف لا معنى لها وتشقيق كلمات لا حقيقة ورائها. ثم نثرت على ذلك بهار الأدب الإلحادي فقلت (يا عزيزي) وبهار التهكم برميك لي بالسطحية وتكلف السجع ثم ختمت بنيانك الافتراضي ببسمة إلكترونية صفراء, أما وقد جاءك الخبر اليقين عاليا, فقد رأيت بأم عينك أن بنيانك سراب سرعان ما تلاشى من ذهنك, وأن الافتراض سم قاتل يسري في أحشاء فكرك المادي ويوشك أن يذهب بريحه, فأنصحك أن تدرك نفسك وأن تتوب مما تدنست به, فأدرك بنيان إلحادك فخلخله ثم فككه وفتته وخلصه مما علق به من شوائب ليست منه, ثم غربله واحفظه في مكان لا تصل إليه أيادي الأطفال حتى تصبح ذات يوم خريف عاصف, فاقصد به مكانا خاليا فاجعله في مهب الريح لترى كم هو متين دينك وفكرك, حتى إذا لم تبق منه الريح العاتية باقية فاعلم أنها ريح شرقية مباركة تدمر كل فكرة واهية (...)
أحس أبو الإلحاد بمهانته ولم يقو على إتمام القراءة, فأغلق الصفحة ورأسه تكاد تغلي وعيناه تؤلمانه كأن كلمات هذا الهجّاء الماكر إبر تساقطت عليه كالنبال. أحس بوخزها في كل مكان من نفسه. أجهش بالبكاء. فقد صار منبوذا لا منتدى له في الشبكة يؤويه وقد قلاه زملاؤه المتنورون, فماذا بقي له ؟ ضاق عليه العالم الإلكتروني بما رحب, وأحس ألا ملجأ له إلا العالم الأرضي وعالمه الداخلي. لكنه فضل الانطواء على نفسه, إذ ليس من معارفه من يستطيع أن ينقذه من ورطته وأن يرقع ثوب إلحاده الذي غدا بعد هذه المعركة الكلامية التي سعى إليها بظلفه كالخيش العتيق.
أخرج مذكرته. طالع لائحة الفروق بين (الغيب العلمي) و(الغيب الديني) كتب في هامشها: (الافتراض اقتراض والاقتراض افتقار.), حاول أن يطبق نظريته لحل هذا الإشكال القاتل. عبثا حاول. إنها محنة عويصة, إذ لا يتعلق الأمر بتطبيقات على جزئيات المسائل, بل بدعامة الدعامات وأصل الأصول. هل يعني اقتراض افتراضات إيمانية ومسلمات تسليمية أن الإلحاد ملة وعقيدة؟ دين وإيمان؟ حرك رأسه مستنكرا. ورفع كفه كمن يدافع شيئا, ثم انتفض كالفرخ المبتل. هم بالدخول على رفقاء (الجرب والجذام) ثم نكص حين تذكر أنه مطرود. لا بد أن يزيل هذه الشبهة التي بدأت تفعل فعل السم في عقله. لا بد أن يبدأ مشروعا جديدا. يبدو أنه مشروع عمره: مشروع (تطهير العلم من الإيمان) حمل قلمه ساعة وهو يحدق في الصفحة الخالية, فلم يسعفه فكره بكلمة منقذة. يبدو أن شيطانه قد هجره كما هجره صناديد ملاحدة الشبكة. تمتم :"من افترض اقترض, ومن اقترض افتقر." ثم مزق أوراقه في غضب وخرج من بيته مسرعا لعل هواء المساء يخفف عنه بعضا مما أصابه.