أبو الإلحاد في زمن الصحوة !
بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..
خرج أبو الإلحاد من بيته في ذلك المساء متعطرا في كامل زينته. سار إلى بيت صديقه وهو يُمني النفس بليلة بألوان الطيف. يا له من عفريت صاحبه شفيق! إنه يعرفه منذ أيام الثانوية. إنه عملة نادرة في هذا الزمان. إنه آخر الصعاليك; لا يتهيب من شيء, ولا ينكص أمام نزوة, ولا يضع لرغائبه حدودا ولا فواصل. ظل أبو الإلحاد يأتيه منذ سنوات آخر الأسبوع لينعم بساعات ينضبط فيها المزاج. طرق الباب وهو يتوقع أقذع الشتائم, فإن قاموس التحية الذي تعارف عليه الرجلان من الصنف الذي ينبه عليه في وسائل الإعلام بأنه لا يصلح للأطفال. فتح شفيق الباب وكان وجهه غريبا, كان غريبا جدا, كان على وجهه معنى لم يره عليه من قبل, أو لنقل لقد غاب عنه شيء طالما لازمه. لم تتح له المفاجأة أن يتعرف أي شيء هو بالضبط, لكنه اختار أن يتجاهل الأمر, فبادر صاحبه على عادته:
"ماذا جرى لك يا ثور؟ كأنك ما قمت بعد من النوم."
فأجابه: "لا أبدا, كنت أصلي"
فغر أبو الإلحاد فاه, وألجمته الصدمة برهة, ثم راجعه في ذهول:
"كنت تعمل إيش؟"
فأعاد عليه كلامه: "كنت أصلي العشاء".
انفجر ضاحكا: "نعم نعم, كيف انطلى علي مكرك؟ أنت تمزح, يا شيطان, أفزعتني..."
قاطعه شفيق قائلا: "أنا لا أمزح, لقد تبت إلى الله."
مضت لحظات في صمت استعاد فيها أبو الإلحاد شريط ذكرياته في هذا البيت, تذكر المجون والفجور. كان دوما يتوقع من شفيق كل شيء, يتوقع منه كل سوء, فهو متقلب المزاج, وتمر به ساعات يكون فيها أشرس من ذئب, لكنه لم يتوقع شيئا كهذا الذي يحصل الآن أبدا. تأمل مرة أخرى في وجه صديقه, فوجد هدوءا لم يره عليه من قبل. فقال له مداعبا يريد تدارك ما جاء من أجله, ويتمنى أن ينتهي هذا الموضوع الغريب الذي يوشك أن يقلب لون ليلته من الأحمر إلى الرمادي فالأسود. قال له:
"حسنا مادمت قد فرغت من الصلاة, فدعنا ندخل, الليلة لنا ونحن لها."
نظر إليه شفيق في سكينة وقال: "انتهت تلك الليالي إلى غير رجعة."
فسأله أبو الإلحاد: "ماذا تعنى؟"
فرد عليه: "أعني أني اليوم إنسان جديد"
أمسك بكتفه وهو يقول: "نعم, لكنك لن تصبح متزمتا, تعال, هذا مستحيل. ليس أنت..."
فقاطعه قائلا: "لا تخف لا أنوي أن أصير متزمتا لكني مسلم, هذا كل شيء."
حاول أبو الإلحاد إلى آخر رمق أن ينقذ ليلته فقال وهو يتكلف الضحك:
"حسنا يا شيخ, صليت العشاء, فافعل ما تشاء, شوية لربه وشوية لعبده"
حاول الدخول فحال شفيق بينه وبين الباب. حينها أحس أبو الإلحاد بشيء غريب, أحس لأول مرة بتفاهة إلحاده. إنه يقف أمام رجل يعرفه دهرا ولا يستطيع أن يمنعه من أن يشق طريقه بعيدا عنه. بدا له شفيق كأنه سفينة تبحر أمامه, وهو يقف في المرسى عاجزا ينظر إليها, ولا يملك أن يوقفها ولا أن يصعد إليها. أحس برغبة في الصياح أو البكاء أو الفرار, لكن نفسه كانت في غاية الضعف. نظر إلى صديقه وسأله:
"وماذا عن صداقتنا؟"
فأجابه: "تستطيع أن تزورني متى شئت, لكن انس ما كنا نجتمع عليه."
حينها استدار أبو الإلحاد ومضى يجر رجليه, مضى وهو لا يكاد يصدق ما جرى.
أحس بريح تعصف في رأسه. مشى يحدث نفسه:
"إنه زمان صعب يا أبا الإلحاد, إن التزمت يزحف من كل حدب وصوب." أينما وليت رأيت أصحاب اللحى, وسمعت الأذان وتلاوة القرآن. حتى التلفزيون لم يعد آمنا.!
بالأمس كان يقلب القنوات وهو يحمل بيسراه سيجارة, فجأة بدا شيخ وقور ينظر إلى عينيه مباشرة ويقول له معاتبا:
"ليش تدخن يا ابني؟ حرام عليك!"
قفز في موضعه, وأطفأ الجهاز. ثم هاهو الساعة يمضي أمام المسجد, يجب أن يسرع. هذا أوان انصراف الناس من صلاة العشاء. فجأة وجد نفسه في بحر بشري. مر به شاب في العشرين. فأهداه ظرفا مغلقا, أخذه منه وانصرف مسرعا. وقبل أن يدخل حارته مرّ برجل عجوز نزل من سيارة أجرة, وهو يحمل حقيبة كبيرة, لم يشعر بنفسه إلا وهو يساعد العجوز في حمل متاعه, وضعه أمام باب بيته وهمّ بالانصراف, فالتفت إليه الشيخ فدعا له:
"الله يرزقك شربة من حوض النبي يا ابني."
ارتبك ولم يدر بأي شيء يجيب, خرجت من أحشائه كلمة طرقت أذنيه وهو لا يكاد يصدق ما قال, لقد قال أبو الإلحاد: "آمين!" لو نطق هذه الكلمة في مجلسه مع زملائه; إذن لظنوه جن.
ندم أشد الندم أنه ساعد الشيخ; بل ندم على خروجه من بيته هاته الليلة العجيبة. لا بد أن الصدفة تعبث بليلته وتحيك له مؤامرة تكاد تذهب بصفاء إلحاده. نعم كل ما جرى له صدفة, مروره أمام المسجد صدفة لا شك في ذلك, دعاء الشيخ أمر يحصل مع أمثاله من الأميين كل يوم, يدعون ويتمتمون بأشياء لا معنى لها طيلة نهارهم وليلهم, وما له ولهم؟ كل ذلك حصل اتفاقا, "لكن أن يصلي شفيق ليلة الأحد, وأن يصمد أمام إغراء السمر ورنين الكؤوس ودخان الشيشة كأنه راهب في كنيسة, هذا قطعا مما يأبى عقلي أن يصدقه بسهولة, فكيف يكون صدفة؟ لا بد لي من تفسير لهذا الانقلاب المفاجئ, ولا بد من عمل شيء أمام هذا الطوفان المتشدد, لا بد من تكثيف جهود دعاة التنوير, لا بد لهم من الوقوف في وجه زحف القنوات الدينية."
استرسل في أفكاره حتى وصل بيته. وحين استلقى على فراشه, وأحس بشيء من الهدوء يعود إلى أفكاره, تذكر الظرف. فتحه في شرود, فوجد فيه سواكا وقطعة مسك, شعر بالاشمئزاز, ثم أخذ منه قرصا إلكترونيا كتب على غلافه بخط كوفي عريض: "لماذا لا تصلي؟" ألقى به بعيدا كأنه جمرة ملتهبة, وتسارع نفسه, وأحس بضيق في صدره, أشعل سيجارة, وقال يحدث نفسه:
"لن ينفعني في اجتياز هذه الليلة المشئومة إلا النوم, فلأنم كي ينتهي هذا الكابوس."
خلع حذائه وأطفأ السراج, وتمنى لو كان يؤمن بإله فيدعوه بشيء واحد لا ثاني له: "أن يلقي عليه طوفانا من النوم" لكن الإلحاد يضرب جذوره في أعماق نفسه, فأي إله يدعو؟ أغمض عينيه فظهر له وجه شفيق الجديد مستنيرا, وهو يقول له: "لقد كنت ميتا فولدت من جديد." اجتهد في دفع هذا الخاطر, فظهر له الشيخ وهو يمسك يده ويقول: "الله يرزقك شربة من حوض النبي يا ابني." تخيل الصراط وخطاطيفه, تخيل نفسه يتحدر في جهنم, فتح عينيه, تصبب عرقا, تخيل أن صديقه شفيق جاءه وهو يليبس قميصا أبيض وقال له: "ليش ما تصلي؟" عندها قام أبو الإلحاد وأحضر كوب ماء وأخرج من جيبه علبة, أخذ منها حبتين, بلعهما ثم أتبعهما ماء, وما هي إلى دقائق حتى سُمع له غطيط.