العيد بنكهة الإلحاد !
بقلم : هشام البوزيدي ..
أو : هشام بن الزبير (منتدى التوحيد) ..
فتح أبو الإلحاد عينيه بعد ليلة قضاها مكدودا كمن ابتلعه ثقب أسود, خيل إليه أنه غدا كومة من العظام المتورمة, شعر بالألم ينخر كيانه, لم يبق فيه مغرز إبرة لا يؤلمه, ثم ظللته سحابة من الهم حين بدأ يعي العالم من حوله شيئا فشيئا, تذكر ليلته وبدأ يتفكر كيف يقضي يومه, لم يدر أيفرح بانصرام رمضان وانفراط عقد أيامه ولياليه, أم يحزن لمقدم العيد الذي يكلل موسمه. بدأت ذكريات السنوات البعيدة تهجم عليه, رأى نفسه طفلا يبيت يتقلب في فراشه في مثل هذه المناسبة يترقب الصبح ليتسربل بحلل العيد, العيد في عقل الطفل الذي أصبح أبا الإلحاد يعود كل عام ليحمل إليه البسمة والبهجة ولينفخ في حياته نفسا جديدا, لكن ذلك كله قد ولى إلى غير رجعة, مرت هذه الخواطر في ذهن صاحبنا فلم يشعر بنفسه إلا وهو يتنهد كمن يتحسر على أيام ٍهنيئة خلت.
بدأ النور ينفذ إلى مِخدعه فاستدار قِبل الجدار, وقع بصره على الساعة فوجدها تشير إلى السادسة والنصف صباحا ً, شعر بالامتعاض الشديد, إنه يجتهد منذ سنين أن يغوص صبيحة العيدين في نوم عميق, فلا يستيقظ إلا بعيد الظهر. إنه يصنع ذلك كيلا يعي شيئا من احتفال المسلمين بانقضاء مواسم طاعاتهم, لكنه الآن مستيقظ في يوم يود لو نام إلى مغيب شمسه. عاد فأغمض عينيه فشعر أنه يتردى في هوة سحيقة ما لها من قرار, ما أتعس أهل الإلحاد في هذه البلاد! بدأت أفكاره تهدأ ونفَسه ينتظم فاستبشر بقرب استسلامه لسلطان الكرى.
فجأة تسلل إليه صوت من خلف الجدار: "الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, الله أكبر ولله الحمد..." استدار أبو الإلحاد في حنق بالغ ووضع الوسادة على رأسه, لقد حصل ما كان يحاذره, سيظل حبيس سريره في هذه الصبيحة تحيط به نفحات هذا اليوم المفعم بفرحة المسلمين, لقد قضى شهره مكشرا عن أنيابه وهو يلعن الصيام ويهزأ بالقيام, ويندب حظه العاثر الذي ألقى به بين أظهر المسلمين, أمضى أيام رمضان ولياليه وهو يكابد مشقة الحياة الإلحادية البئيسة, حياة النفاق والترقب والتوجس, وهاهوذا ملقى في سريره كالمنبوذ حزينا يوم فرحة الناس, وهاهو التكبير يقتحم عليه خلوته التعيسة, إنه ينبعث من إحدى القنوات الدينية, إنه تكبير بلكنة حجازية.
لقد حزن لمقدم رمضان وهاهو يحزن لمقدم العيد, فيا ليت شعري بأي شيء يفرح أهل الزيغ والإلحاد, ولِم يفرحون ومتى يفرحون؟ طرق هذا الخاطر ذهن صاحبنا وتساءل: "يا ويح الزملاء, يا لخيبة المتنورين في هذه الأرجاء, أين الفرحة الإلحادية أين الأعياد المنسلخة من العقائد الإيمانية ومن التصورات الغيبية؟" إن رفاق (الجرب والجذام) يفرحون للكريسمس ورأس السنة والفالنتاين والهالويين ولما لا يحصى كثرة من الأيام الإفرنجية المخترعة, لكنه لا يذكر منها يوما يحمل عشر معشار هذه الطاقة التي تشع في مثل هذا العيد, إنها أيام لا تختلف عن البقية الباقية من أيام الناس لو استثنينا ما يكتنفها من الإقبال على اللهو ولذائذ الطعام, أما هذا اليوم فيختزن قوة وهيبة يبثها في أوصال المجتمع فتنبعث الفرحة من أهل الإسلام وتغمر الحسرة والأسى أهل الإلحاد.
تمنى لو كان يملك التأشيرة والمال اللازم ليلوذ ببلد متنور كلما حل مثل هذا اليوم كما يفعل الموسرون من الزملاء, لكن هيهات لقد منحته الصدفة خلطة قاتلة: الإلحاد والضلال والبؤس والإقلال, إن الملحد الفقير أتعس الدواب على وجه الأرض, إنه يعشق الدنيا ويهيم في غرام العالم المادي ويفنى في شهود ظاهر الحياة, ثم تقعد به فاقته عن الإنغماس في نعيمها والتلذذ بشهواتها. أشعل التلفاز وبقي ممددا يتسلى بمشاهدة نشرة الأخبار فساءه أن أخبار العيد استغرقت معظمها, رأى كيف احتفل المسلمون بالعيد في أصقاع الأرض, ولما شاهد الجموع في مساجد باريس ولندن وساحاتها وقد اصطفت لصلاة العيد أيقن أنه ربما يحتاج تأشيرة لكوكب المريخ كيلا يسمع التكبير والتهليل بالمرة. ليته يقضي هذا اليوم في عاصمة الإلحاد في حاضرة الزميل المرعب أبي شنب جوزف ستالين, ما أن عنّت له هذه الفكرة حتى بدأ بث تقرير مصور حول احتفال مسلمي روسيا بالعيد, كاد أبو الإلحاد يصعق لمرأى الألوف المؤلفة وقد احتشدت في أكبر مساجد موسكو, إن التزمت يكاد يبتلع آخر معاقل الملة الإلحادية, أطفأ الجهاز والحسرة تأكل فؤاده, ثم جلس في سريره وهو يتمثل بهذا البيت الذي لم يعد يذكر أين سمعه:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد.........إن كان في القلب إلحاد وكفران
شعر صاحبنا برائحة العود تنبعث من بيت الجيران واستمر في شروده على إيقاع التكبير والتهليل والتحميد حتى سمع طرقا خفيفا على الباب, تسارع نبضه وخشي أن يكون أخوه قد أتى ليصطحبه, لكنه سمع صوت جاره سليمان يسلم عليه, تردد ولم يدر ماذا يصنع, إن شيئا غريبا يحصل بين الرجلين منذ أسابيع, إن التقارب المتزايد بينهما ينذر بخطر محدق, ثم هاهو سليمان يطرق بابه صبيحة عيد الفطر, خطر لأبي الإلحاد أن جاره ينصب له فخا دعويا محكما يوشك أن ينطبق عليه, أطل من ثقب الباب فرآه يحمل في يده طبقا من الحلوى, فلم ير بدا من فتح الباب فهو لا يصبر عن حلوى العيد.
وقف سليمان في ثوبه الأبيض الناصع وقد استنار وجهه ببسمة هادئة, قدم له الطبق الشهي قائلا: "كل عام وأنتم بخير" فارتبك أبو الإلحاد وشعر بحرج بالغ ثم تمالك نفسه وقال: "كل عام وأنتم بخير, شكرا لك سليمان", فقال له بنبرة ودود: "هذه هدية لأهل البيت, لقد جئت لأدعوك لفطور العيد, سأنتظرك ريثما تستعد" وقف أبو الإلحاد برهة يفتش عن عذر يتملص به من هذه الدعوة المفاجئة, لكنه أبعد الناس عن سرعة البديهة خصوصا في مثل هذه الساعة المبكرة, ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء حسبها جاره تعبيرا عن الرضا, فقال له: "سأنتظرك بالبيت" دخل أبو الإلحاد إلى الحمام فغسل وجهه بالماء البارد لعله ينفض عنه تعب الصباح, ثم فتح دولاب الملابس, فلم يشعر إلا وهو يلبس قميصا أبيضا جديدا ويتعطر, نظر إلى صفحة وجهه في المرآة فرأى كيف اكتسى بكسوة النفاق, ثم نظر إلى قلبه فألفاه كما عهده تعلوه حلكة الإلحاد. شعر بالخجل من نفسه, كيف له أن يجلس إلى مائدة مَن لا يرى فيه إلا متزمتا بليدا يحيا في أحضان الفكر الخرافي؟ بل كيف له أن يأكل من طعام العيد وهو ملحد جلْد, لماذا لا يصارحه بحقيقة حاله؟ إن بين ظاهر سليمان وباطنه ما يشبه التطابق, إن وجهه يعطي هذا الإنطباع, أما أبو الإلحاد فإن بين قشرته الخارجية وبين ما يدور في دهاليز نفسه المتحيرة قفارا وفيافي يتيه فيها العقل البشري. إنه يجتهد الآن أن يعبر هذه المتاهات المظلمة ليبرر لنفسه نفاقه المخزي, هاهو يقول محدثا نفسه: "إنه أمر عادي جدا, فأنا إنسان اجتماعي, أفرح لفرح الناس, سأشارك الناس في هذا العرف المتجذر, ثم إنني أقبل بكثير من جزئيات الثقافة الشعبية..." نظر إلى قميصه الأبيض الجميل, ففطن إلى أنه يلبسه لأول مرة, لقد لبس أبو الإلحاد الجديد يوم العيد, بل إنه لبس البياض! شعر بالتناقض الشديد وبالتذبذب الفاضح الذي ينغمس فيه في أمثال هاته المواقف, لقد حسم أمره, سيفرح لفرح الناس حتى يخرج من هذه الورطة, لكن الفرحة ليست بالشيء الذي يسهل تصنّعه, وهذا أمر آخر يحزنه, إنه كثيرا ما يرمي المسلمين بالنفاق والتصنع, فهل يستطيع أن يقنع نفسه أنهم يتصنعون الفرحة يوم عيد فطرهم؟ كلا إن فرحتهم صادقة ما بذلك من خفاء. خطر له هذه الساعة أن عليه أن يتوقف عن رمي الناس بما هو فيه, إن له في النفاق نسبا عريقا فما باله يدعي استهجانه.
دخل على سليمان فوجد البيت في أحسن حال, يعبق بريح العود ويتراكض فيه الأطفال في لباس العيد, فأجلسه إلى مائدة ازدانت بما لذ وطاب, والتكبير لا ينقطع من شاشة التلفاز, أفطر أبو الإلحاد ومضت بعض ساعة في أحاديث متناثرة, ثم قام سليمان فجأة قائلا: "لنسرع قبل أن يضيق الوقت" وقبل أن ينبس صاحبنا ببنت شفة وجد نفسه في السيارة حيث يصدح أحد مشاهير القراء بالقرآن, وما أن سارت السيارة قليلا حتى بلغ قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) النساء: 142-143 شعر بالدوار إنه في طريقه إلى مصلى المسلمين, طالما اشتكى من الإكراه الذي يئن حزب التنوير تحت وطأته في ديار الإسلام, لكنه يمضي في هذه الساعة المبكرة إلى ما يكره طوعا كأنه مسلوب الإرادة.
وقف أبو الإلحاد على حافة بحر بشري أبيض يهدر بالتكبير, مضت عليه هنيهة كأنها أحقاب متطاولة, تخيل كيف ستمضي عليه ساعة وسط هذه الصفوف المكبرة, وكيف سيستمع إلى خطبة لن تخلو من تقريع لأمثاله, وامتعض حين تخيل كيف يهنئه بالعيد أناس غرباء. لا بد من مخرج من هذه الورطة, التفت إلى جاره قائلا: "معذرة أحتاج أن أتوضأ من جديد, خذ مكانك وسأتدبر أمري." عاد صاحبنا أدراجه وهو يتنفس الصعداء, امتطى سيارة أجرة وعاد إلى بيته كمن استيقظ لتوه من كابوس مرعب, في ذلك الصباح العجيب استيقن أبو الإلحاد أن الإلحاد واللاأدرية واللادينية التي يدندن حولها دعاة الإلحاد الإلكتروني العربي جعجعة لفظية لا تكاد تجد موطئ قدم في ديار الإسلام وأن أصحابها يذوبون في واقع الأمر وسط المجتمع دون أن يكون لهم فكر يميزهم, إنهم أنصار المذهب الحربائي بدون منازع إنهم حزب النفاق وملؤه.
بدأ النور ينفذ إلى مِخدعه فاستدار قِبل الجدار, وقع بصره على الساعة فوجدها تشير إلى السادسة والنصف صباحا ً, شعر بالامتعاض الشديد, إنه يجتهد منذ سنين أن يغوص صبيحة العيدين في نوم عميق, فلا يستيقظ إلا بعيد الظهر. إنه يصنع ذلك كيلا يعي شيئا من احتفال المسلمين بانقضاء مواسم طاعاتهم, لكنه الآن مستيقظ في يوم يود لو نام إلى مغيب شمسه. عاد فأغمض عينيه فشعر أنه يتردى في هوة سحيقة ما لها من قرار, ما أتعس أهل الإلحاد في هذه البلاد! بدأت أفكاره تهدأ ونفَسه ينتظم فاستبشر بقرب استسلامه لسلطان الكرى.
فجأة تسلل إليه صوت من خلف الجدار: "الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, الله أكبر ولله الحمد..." استدار أبو الإلحاد في حنق بالغ ووضع الوسادة على رأسه, لقد حصل ما كان يحاذره, سيظل حبيس سريره في هذه الصبيحة تحيط به نفحات هذا اليوم المفعم بفرحة المسلمين, لقد قضى شهره مكشرا عن أنيابه وهو يلعن الصيام ويهزأ بالقيام, ويندب حظه العاثر الذي ألقى به بين أظهر المسلمين, أمضى أيام رمضان ولياليه وهو يكابد مشقة الحياة الإلحادية البئيسة, حياة النفاق والترقب والتوجس, وهاهوذا ملقى في سريره كالمنبوذ حزينا يوم فرحة الناس, وهاهو التكبير يقتحم عليه خلوته التعيسة, إنه ينبعث من إحدى القنوات الدينية, إنه تكبير بلكنة حجازية.
لقد حزن لمقدم رمضان وهاهو يحزن لمقدم العيد, فيا ليت شعري بأي شيء يفرح أهل الزيغ والإلحاد, ولِم يفرحون ومتى يفرحون؟ طرق هذا الخاطر ذهن صاحبنا وتساءل: "يا ويح الزملاء, يا لخيبة المتنورين في هذه الأرجاء, أين الفرحة الإلحادية أين الأعياد المنسلخة من العقائد الإيمانية ومن التصورات الغيبية؟" إن رفاق (الجرب والجذام) يفرحون للكريسمس ورأس السنة والفالنتاين والهالويين ولما لا يحصى كثرة من الأيام الإفرنجية المخترعة, لكنه لا يذكر منها يوما يحمل عشر معشار هذه الطاقة التي تشع في مثل هذا العيد, إنها أيام لا تختلف عن البقية الباقية من أيام الناس لو استثنينا ما يكتنفها من الإقبال على اللهو ولذائذ الطعام, أما هذا اليوم فيختزن قوة وهيبة يبثها في أوصال المجتمع فتنبعث الفرحة من أهل الإسلام وتغمر الحسرة والأسى أهل الإلحاد.
تمنى لو كان يملك التأشيرة والمال اللازم ليلوذ ببلد متنور كلما حل مثل هذا اليوم كما يفعل الموسرون من الزملاء, لكن هيهات لقد منحته الصدفة خلطة قاتلة: الإلحاد والضلال والبؤس والإقلال, إن الملحد الفقير أتعس الدواب على وجه الأرض, إنه يعشق الدنيا ويهيم في غرام العالم المادي ويفنى في شهود ظاهر الحياة, ثم تقعد به فاقته عن الإنغماس في نعيمها والتلذذ بشهواتها. أشعل التلفاز وبقي ممددا يتسلى بمشاهدة نشرة الأخبار فساءه أن أخبار العيد استغرقت معظمها, رأى كيف احتفل المسلمون بالعيد في أصقاع الأرض, ولما شاهد الجموع في مساجد باريس ولندن وساحاتها وقد اصطفت لصلاة العيد أيقن أنه ربما يحتاج تأشيرة لكوكب المريخ كيلا يسمع التكبير والتهليل بالمرة. ليته يقضي هذا اليوم في عاصمة الإلحاد في حاضرة الزميل المرعب أبي شنب جوزف ستالين, ما أن عنّت له هذه الفكرة حتى بدأ بث تقرير مصور حول احتفال مسلمي روسيا بالعيد, كاد أبو الإلحاد يصعق لمرأى الألوف المؤلفة وقد احتشدت في أكبر مساجد موسكو, إن التزمت يكاد يبتلع آخر معاقل الملة الإلحادية, أطفأ الجهاز والحسرة تأكل فؤاده, ثم جلس في سريره وهو يتمثل بهذا البيت الذي لم يعد يذكر أين سمعه:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد.........إن كان في القلب إلحاد وكفران
شعر صاحبنا برائحة العود تنبعث من بيت الجيران واستمر في شروده على إيقاع التكبير والتهليل والتحميد حتى سمع طرقا خفيفا على الباب, تسارع نبضه وخشي أن يكون أخوه قد أتى ليصطحبه, لكنه سمع صوت جاره سليمان يسلم عليه, تردد ولم يدر ماذا يصنع, إن شيئا غريبا يحصل بين الرجلين منذ أسابيع, إن التقارب المتزايد بينهما ينذر بخطر محدق, ثم هاهو سليمان يطرق بابه صبيحة عيد الفطر, خطر لأبي الإلحاد أن جاره ينصب له فخا دعويا محكما يوشك أن ينطبق عليه, أطل من ثقب الباب فرآه يحمل في يده طبقا من الحلوى, فلم ير بدا من فتح الباب فهو لا يصبر عن حلوى العيد.
وقف سليمان في ثوبه الأبيض الناصع وقد استنار وجهه ببسمة هادئة, قدم له الطبق الشهي قائلا: "كل عام وأنتم بخير" فارتبك أبو الإلحاد وشعر بحرج بالغ ثم تمالك نفسه وقال: "كل عام وأنتم بخير, شكرا لك سليمان", فقال له بنبرة ودود: "هذه هدية لأهل البيت, لقد جئت لأدعوك لفطور العيد, سأنتظرك ريثما تستعد" وقف أبو الإلحاد برهة يفتش عن عذر يتملص به من هذه الدعوة المفاجئة, لكنه أبعد الناس عن سرعة البديهة خصوصا في مثل هذه الساعة المبكرة, ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء حسبها جاره تعبيرا عن الرضا, فقال له: "سأنتظرك بالبيت" دخل أبو الإلحاد إلى الحمام فغسل وجهه بالماء البارد لعله ينفض عنه تعب الصباح, ثم فتح دولاب الملابس, فلم يشعر إلا وهو يلبس قميصا أبيضا جديدا ويتعطر, نظر إلى صفحة وجهه في المرآة فرأى كيف اكتسى بكسوة النفاق, ثم نظر إلى قلبه فألفاه كما عهده تعلوه حلكة الإلحاد. شعر بالخجل من نفسه, كيف له أن يجلس إلى مائدة مَن لا يرى فيه إلا متزمتا بليدا يحيا في أحضان الفكر الخرافي؟ بل كيف له أن يأكل من طعام العيد وهو ملحد جلْد, لماذا لا يصارحه بحقيقة حاله؟ إن بين ظاهر سليمان وباطنه ما يشبه التطابق, إن وجهه يعطي هذا الإنطباع, أما أبو الإلحاد فإن بين قشرته الخارجية وبين ما يدور في دهاليز نفسه المتحيرة قفارا وفيافي يتيه فيها العقل البشري. إنه يجتهد الآن أن يعبر هذه المتاهات المظلمة ليبرر لنفسه نفاقه المخزي, هاهو يقول محدثا نفسه: "إنه أمر عادي جدا, فأنا إنسان اجتماعي, أفرح لفرح الناس, سأشارك الناس في هذا العرف المتجذر, ثم إنني أقبل بكثير من جزئيات الثقافة الشعبية..." نظر إلى قميصه الأبيض الجميل, ففطن إلى أنه يلبسه لأول مرة, لقد لبس أبو الإلحاد الجديد يوم العيد, بل إنه لبس البياض! شعر بالتناقض الشديد وبالتذبذب الفاضح الذي ينغمس فيه في أمثال هاته المواقف, لقد حسم أمره, سيفرح لفرح الناس حتى يخرج من هذه الورطة, لكن الفرحة ليست بالشيء الذي يسهل تصنّعه, وهذا أمر آخر يحزنه, إنه كثيرا ما يرمي المسلمين بالنفاق والتصنع, فهل يستطيع أن يقنع نفسه أنهم يتصنعون الفرحة يوم عيد فطرهم؟ كلا إن فرحتهم صادقة ما بذلك من خفاء. خطر له هذه الساعة أن عليه أن يتوقف عن رمي الناس بما هو فيه, إن له في النفاق نسبا عريقا فما باله يدعي استهجانه.
دخل على سليمان فوجد البيت في أحسن حال, يعبق بريح العود ويتراكض فيه الأطفال في لباس العيد, فأجلسه إلى مائدة ازدانت بما لذ وطاب, والتكبير لا ينقطع من شاشة التلفاز, أفطر أبو الإلحاد ومضت بعض ساعة في أحاديث متناثرة, ثم قام سليمان فجأة قائلا: "لنسرع قبل أن يضيق الوقت" وقبل أن ينبس صاحبنا ببنت شفة وجد نفسه في السيارة حيث يصدح أحد مشاهير القراء بالقرآن, وما أن سارت السيارة قليلا حتى بلغ قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) النساء: 142-143 شعر بالدوار إنه في طريقه إلى مصلى المسلمين, طالما اشتكى من الإكراه الذي يئن حزب التنوير تحت وطأته في ديار الإسلام, لكنه يمضي في هذه الساعة المبكرة إلى ما يكره طوعا كأنه مسلوب الإرادة.
وقف أبو الإلحاد على حافة بحر بشري أبيض يهدر بالتكبير, مضت عليه هنيهة كأنها أحقاب متطاولة, تخيل كيف ستمضي عليه ساعة وسط هذه الصفوف المكبرة, وكيف سيستمع إلى خطبة لن تخلو من تقريع لأمثاله, وامتعض حين تخيل كيف يهنئه بالعيد أناس غرباء. لا بد من مخرج من هذه الورطة, التفت إلى جاره قائلا: "معذرة أحتاج أن أتوضأ من جديد, خذ مكانك وسأتدبر أمري." عاد صاحبنا أدراجه وهو يتنفس الصعداء, امتطى سيارة أجرة وعاد إلى بيته كمن استيقظ لتوه من كابوس مرعب, في ذلك الصباح العجيب استيقن أبو الإلحاد أن الإلحاد واللاأدرية واللادينية التي يدندن حولها دعاة الإلحاد الإلكتروني العربي جعجعة لفظية لا تكاد تجد موطئ قدم في ديار الإسلام وأن أصحابها يذوبون في واقع الأمر وسط المجتمع دون أن يكون لهم فكر يميزهم, إنهم أنصار المذهب الحربائي بدون منازع إنهم حزب النفاق وملؤه.